شيراك وشارون .. قصة ابتزاز معلن

TT

آخر من يعتقد بأن معاداة السامية متفاقمة في فرنسا هو شارون نفسه! ومع ذلك فهو يستخدم هذه المغالطة لتحقيق عدة أهداف سياسية أو لضرب عدة عصافير بحجر واحد كما يقال. وهنا يكمن الطابع المكيافيلي للسياسة الذرائعية في عصر شارون وفي كل العصور.

لا ريب في أن فرنسا كانت معادية للسامية في السابق، وبخاصة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما اندلعت مشكلة الضابط اليهودي درايفوس، فقد اتهم ظلما بأنه عميل للألمان وانه سرب اليهم معلومات وتقارير سرية عن الجيش الفرنسي. وقد انقسمت فرنسا آنذاك الى قسمين: معه وضده. ولكن أغلبية الشعب كانت ضده بالاضافة إلى قسم كبير من النخبة الثقافية والسياسية للبلاد ما عدا الكاتب الشهير اميل زولا وبعض الآخرين الجريئين، ومؤخرا كشفت التقارير ان زولا لم يمت بشكل طبيعي كما نعتقد، وانما اغتيل بسبب موقفه ذلك. (قتله اليمين المتطرف الفرنسي الذي يكره اليهود والعرب في آن معا..).

ولكن فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية غيرت موقفها تماما من اليهود بعد ان انكشفت جريمة المحرقة النازية التي تورطت فيها بعض الجهات الفرنسية في ظل حكم الماريشال بيتان الذي اتهم بالخيانة العظمى من قبل ديغول، بعدئذ ما انفكت فرنسا، وأوروبا كلها، تعتذر لليهود وتقدم لهم كل آيات التقدير والاحترام، ولا يزال هذا الموقف سائدا حتى الآن الى درجة ان أحد المثقفين اليهود صرح قائلا: أسعد من اليهودي في فرنسا لا يمكن أن تجد!..

لكن لأول مرة ايضا في تاريخ فرنسا فإن الاحساس بآلام الفلسطينيين ومعاناتهم أصبح واضحا ومتزايدا في الاوساط الطلابية والثقافية والسياسية، بل وحتى الشعبية الى حد ما، وقد لعب التلفزيون دورا كبيرا في ذلك عن طريق نقل احداث الانتفاضة والقمع الوحشي لسكان الضفة الغربية وغزة من قبل احدث انواع التكنولوجيا العسكرية الاسرائيلية.

ولولا ان الفلسطينيين وبالأخص حماس والجهاد لجأوا الى العمليات الانتحارية التي تصيب المدنيين بشكل عشوائي أعمى في الباصات والشوارع والمقاهي، لكسب الفلسطينيون معركة الرأي العام العالمي بشكل مطلق أو شبه مطلق.

ولولا بن لادن وضربة (11) سبتمبر لما استطاع شارون تنفيذ مخططه على مدار السنوات الثلاث الماضية. فقد جاءته بردا وسلاما وفي الوقت المناسب لكي تغطي على كل أعماله وتشغل الناس عما يحصل في فلسطين، أو عما يفعله في فلسطين المحتلة. لكن شارون أو اليمين الاسرائيلي المتطرف عموما تلقى مؤخرا ضربة موجعة على الرأس، بل ضربتين، ولذلك افتعل المشكلة مع فرنسا لصرف الانظار عن ذلك. فقرار محكمة العدل الدولية بعدم مشروعية الجدار العازل اصابه في الصميم. ليس لأن القرار قابل للتنفيذ، وانما لأنه صادر عن أعلى محكمة قانونية في العالم. وبالتالي فهو يعني ادانة اخلاقية ومعنوية للسياسة الاسرائيلية الحالية. وهو يشكل انتصارا للحق الفلسطيني المغدور الذي تخلى عنه معظم الناس. لقد اثبت قرار محكمة لاهاي ان ضمير الحضارة الغربية لم يمت، وانه روح جان جاك روسو وايمانويل كانط وبرتراند رسل وجيل ديلوز لا تزال حية على الرغم من كل شيء. لقد اثبت ان العدالة الكونية لا تزال موجودة في وقت اعتقدنا ان الكون كله قد خرب أو فسد.

وقرار المحكمة لا يعني عدم أحقية اسرائيل في الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها من العمليات الانتحارية العمياء. وانما يعني ان هذا القرار كان ينبغي أن يبنى على الخط الاخضر الذي يفصل حدود اسرائيل عن حدود فلسطين لا داخل الاراضي الفلسطينية لعشرة كيلومترات أو حتى عشرين كيلومترا!.

فهذا الجدار يؤدي الى التهام قسم كبير من أراضي الضفة الغربية وربما تهجير ما لا يقل عن ستمائة الف شخص الى الاردن. وهكذا يقضي على أي أمل في اقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة مستقبلا.

ثم جاءت الضربة الثانية على رأس شارون خلال أقل من عشرة أيام من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقد اكدت على قرار محكمة العدل الدولية وصوتت بشكل ساحق ضد الجدار العازل. والأنكى من ذلك أن الاتحاد الاوروبي صوت لصالح القرار.

وبالتالي ففي حياتها كلها لم تشعر اسرائيل بأنها مدانة أو معزولة بمثل هذا الشكل وفي حياتها كلها لم يصوت الاتحاد الاوروبي ككتلة واحدة ضد اسرائيل. وربما شكل ذلك منعطفا في تاريخ الديبلوماسية الاوروبية تجاه الشرق الاوسط، ولا ريب في ان فرنسا هي التي تقف وراء هذا الاجماع وقد اصبح ممكنا بفضل التقارب الوثيق الذي حصل مؤخرا بين المانيا وفرنسا، نواة الوحدة الاوروبية الصلبة. وقد استطاعت فرنسا اقناع شركائها بالتصويت على القرار لأنه ينص صراحة على ضرورة ان يتراجع الفلسطينيون عن العنف كوسيلة لتحقيق اهدافهم. والمقصود بالعنف اساسا عمليات الكاميكاز الانتحارية.

مهما يكن من أمر فإن شارون منزعج من فرنسا لعدة اسباب، فهي البلد الاوروبي الوحيد الذي يحرص على استمرارية العلاقات مع القيادة الفلسطينية. وهي البلد الوحيد الذي يتصدى صراحة للسياسة الاميركية في الشرق الأوسط. وهي تعتقد بأن الخروج من المأزق يتطلب كسر المنطق الاميركي ـ الاسرائيلي من جهة، والمنطق العربي التقليدي من جهة أخرى.

فالتحالف الاميركي ـ الاسرائيلي يقول للعرب ما معناه: لا يمكن أن نقيم معكم السلام قبل ان تغيروا أنفسكم وتصلحوا أموركم الداخلية من سياسية واقتصادية وثقافية وبرامج تعليم وتسامح ديني، الخ. فالسلام معكم، أي مع الانظمة الحالية، غير مضمون، لأنها هشة وقد تسقط في أي لحظة تحت وطأة الحركات الأصولية المتزمتة والارهابية. وبالتالي فما معنى السلام معكم اذا كان سينهار بعد قليل؟ لا معنى للسلام قبل القضاء على الارهاب وتحول العرب والمسلمين كلهم الى اناس ديمقراطيين، حضاريين، متسامحين.

أما المنطق العربي التقليدي فيقول: حلوا لنا مشكلة فلسطين وكل المشاكل الأخرى سوف تنحل دفعة واحدة، وهكذا اتخذت قضية فلسطين كتعلة أو كحجة لتأجيل الاصلاحات الداخلية ودمقرطة الانظمة الى ما لا نهاية. فحرية الصحافة مؤجلة، وحرية الفكر مؤجلة، وفتح الفم مؤجل، الخ.

أما فرنسا وأوروبا فتقولان ما يلي: ينبغي أن نحل الصراع العربي ـ الاسرائيلي ونجري الاصلاحات على الأنظمة في آن معاً. لكن هذه الاصلاحات ينبغي ان تجيء من الداخل وبشكل تدريجي لا أن تُفرض فرضا قسريا من الخارج كما يفعل المحافظون الجدد بنوع من الرعونة والتسرع. فالتغيير الذي لا يجيء من الداخل لا معنى له ولا يمكن ان يترسخ في الارض العربية ـ الاسلامية.

والواقع ان فرنسا تختلف مع أميركا حول قضية فلسطين اكثر مما تختلف حول العراق. فأميركا تستهين بالقضية الفلسطينية ولا تعتبرها مركزية أو مفتاحية على عكس فرنسا. واكبر دليل على ذلك مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي هو عبارة عن قفز على هذه القضية أو تمييع لها وتذويب في أحسن الاحوال.

لكل هذه الاسباب فإن شارون يريد ان يصفي حساباته مع فرنسا. بل ويريد ان ينقل الحرب الأهلية اليها لأنه يعرف انها تحتوي على اكبر جالية يهودية في اوروبا، وأكبر جالية عربية أو اسلامية. فالأولى مكونة من ستمائة الف شخص، والثانية من خمسة ملايين شخص! وتحريضه على الجالية العربية وايحاؤه بأنها معادية للسامية بطبيعتها يعني خلق المشكلة بدلا من تطويقها أو تحجيمها. فهو يصب الزيت على النار في الواقع، ويضر بيهود فرنسا أكثر مما يفيدهم. ولم يخف هذا الشيء على وعي ممثلي الجالية اليهودية الذين أدانوه في معظمهم. لكن بما أن شارون رجل متطرف بطبيعته فإنه لا يريد من العرب إلا أن يكونوا على شاكلة بن لادن وأبي مصعب الزرقاوي. فالواقع ان وجود هؤلاء هو الذي يبرر وجوده، والعكس بالعكس. هل يعني ذلك ان الجالية العربية الاسلامية لا تحتوي على عناصر متطرفة؟ بالطبع لا. فهؤلاء موجودون للأسف، وأحيانا يتصرفون بطريقة مزعجة ضد اليهود وغير اليهود، لكن معظم أبناء الجالية ينتمون الى التيار العقلاني العريض الذي يريد ان يندمج في المجتمع الاوروبي ويفيده مثلما يستفيد منه. وهؤلاء اذا ما انتصروا كليا على التيار الظلامي سوف يكونون حظا لبلادهم الأصلية لأنهم سينقلون أنوار الحضارة الاوروبية الى المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا، الخ. والمستقبل لهم.

أخيرا فإن شارون أصبح يخاف من القنبلة الديمغرافية الفلسطينية ويريد موازنتها بنقل مليون يهودي جديد الى اسرائيل. ينبغي العلم بأن عرب اسرائيل يشكلون 20% من عدد سكانها، وأن الفلسطينيين في الضفة وغزة والشتات في حالة تزايد ديمغرافي على عكس الاسرائيليين، وبما أن يهود روسيا نضب معينهم بعد أن هاجر معظمهم فلم يبق أمام شارون إلا يهود فرنسا (600.000) ويهود الارجنتين (200.000) وربما بعض الآخرين. وأما يهود أميركا فلا يريد تهجيرهم لأنه بحاجة اليهم هناك. والاحصائيات تقول بأن هجرة يهود فرنسا تناقصت في العام الماضي بدلا من ان تزيد. وهي عموما تصل الى الفيّ شخص في السنة.