توني بلير على حق... مثل جدي تماما!

TT

تعرض رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، لهجوم جحافل اليسار، بعد دعوته الرجال المحترمين لدعم برنامجه لإصلاح الاخلاق ومعالجة ظاهرة antisocial behaviour أو السلوك الاجتماعي الشائن.

يرى بلير ان الاستهتار بالقيم في الستينات، كان وراء ظاهرة المتشردين والسكارى في الشوارع، والنشالين الصغار والتصرفات الضارة بالمجتمع.

ويحصد المجتمع اليوم، ثمار سياسة الـ Political Correctness أو التصحيح السياسي، كفتاوى تحريم استخدام كلمتي «مدموزيل» و«مدام» Miss / Mrs واستبدالها بالمحايد Ms، او حرمان رجل يرعي أسرة من وظيفة تمنح لشابة ـ ستهدر ساعات الإنتاج في الحب والزواج والحمل وإجازة الولادة، وتحرم اولادها من الرعاية ـ استيفاء «لكوتا» المساواة بين الجنسين، وتجاهل الكفاءة.

وحب اليسار لبلير، مثل حب تلاميذ ليون تروتسكي لجوزيف ستالين. فقد كفر باشتراكية ماركس ولينين، بانحرافه نحو درب السيدة الحديدية مارجريت ثاتشر، رغم العثور على صور التلميذ بلير بالجيتار والشعر الطويل، لهيبيز الستينات وفرقة البيتلز ـ الخنافس ـ التي اعادت الاعتبار للطرب البريطاني بعد الاحتكار الأميركي لنصف قرن.

ردد اليسار، كعادته، طريقة «ولا تقربوا الصلاة....»، رغم تقدير بلير لإيجابيات الستينات، من تحرير العقل، وانتصار حركة الحقوق المدنية وميثاق حقوق الانسان، بما فيه من ضمانات للحريات، وإلغاء عقوبة الإعدام. لكن سلبيات تمرد نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، تركت بصماتها على العالم كله، حسب خبرتي، فبسبب رخص أسعار السفر للطلبة، اذكر انني قضيت فترة الدراسة كمسافر دائم بين بريطانيا ومصر وأميركا واوروبا، وحتى الهند ـ اقتفاء لأثر فلسفة الهيبيز الطلابية، فأطلقنا اللحى والشعور، وارتدينا عقود الخرز والزهور، ودخنا ما يمكن تدخينه.

بعد التخرج، ظل البعض أسير مزاج تكون مما ابتلعه ودخنه، وفلسفة الـPolitical Correctness. فترك من احتل منهم مناصب مسؤولة آثارا نراها اليوم في مظاهر الانهيار الحضاري الجمالي، وقبول المجتمع للقبح الشديد، في المعمار، والملبس، وديكورات المنازل، التي كانت أمي ـ رحمها الله ـ تقول عنها: «انها تشبه ملابس ومنازل اغنياء الحروب»!

ظهر التعبير في كاريكاتير فنانين مثل رخّا وعبد السميع، في نهاية الحرب الثانية، فكررته «هوانم» مصر المتزوجات من الأفندية المحترمين. ويحمل التعبير دلالات عظيمة. ففئات المحامين وأساتذة الجامعة والأفندية، التي حفظت تراث ما تراكم من حضارة المجتمع، انشأت ابناءها، تقليديا، على قيم تضمن استمرار كل ما هو ايجابي في الأمة.

والأفندي في فترة ما بين الحربين العالميتين، كان ناظرا لمحطة سكة الحديد، أو وكيلا لمصلحة على المستوى القومي، أو مديرا لبنك أو مستشفى، أو ناظرا لمدرسة، أو حكيم باشي الصحة لمديرية بأكملها. طبقة الأفندية والهوانم ـ والتي بنيت النهضة الرأسمالية البرلمانية الليبرالية التعددية، في مصر، من ثمار تضحياتها في ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول باشا وصفية هانم، وجدت نفسها في مستوى مادي متدن مقارنة بأغنياء الحرب من « بلطجية واونطجية» اميين، تاجروا في خردة الجيش وبطاقات التموين.

وأصبح الإنتاج الفني والثقافي، خاصة تحت حكم عسكر، او تجار خردة تحولوا لمنتجين، يفصل على مقاس المزاج الفاسد لأغنياء الحرب منphilistines لا ثقافة او ذوق لديهم.

ورغم ان بريطانيا لم تتعرض لكارثة انقلاب عسكري كما حدث في مصر عام 1952، باستيلاء ضباط على السلطة، وإزاحتهم الأفندية المتخصصين، وتسلمهم مناصب تحمل مفاتيح ادارة ماكينة المجتمع اقتصاديا ومعارفيا وفنيا، وإهدار ثروات الأمة في الحروب، او نهبها; فإن اعباء اقتصادات ما بعد الحرب الثانية، وقلب الأميركيون ظهر المجن لبريطانيا في ازمة السويس عام 1956، وفقدان الهوية، الإمبراطورية الطابع، للطبقات الوسطى، ادت لتغلب سلبيات الستينات، على ايجابياتها في بريطانيا التي يريد بلير اصلاحها.

شهدت الستينات هدما بالجملة لمباني المعمار الريجنسي والجورجي والفيكتوري الجميل، لتحل محلها ابراج القبح من الخرسانة والزجاج والحديد، بلا شخصية او روح. وتكررت المأساة في مصر وبلدان المتوسط. وبينما انقذت حركة حماية التراث في بريطانيا وأوروبا، الكثير من هذه المباني، فإنها عجزت عن انقاذ الأخلاق والذوق الاجتماعي والرموز القومية لفلسفة هذا المعمار. أما الفساد وديكتاتورية العسكر وجشع اوليجاركية انقلاب 23 يوليو، في مصر، فأجهزت على معظم ما بقي من جمال معماري. وانقرض ما بقي من اخلاق المجتمع في مصر.

وتجدنا ـ قاب قوسيين او ادنى من سن المعاش او تجاوزه ـ أقلية تتجه نحو الانقراض. نقدم مقاعدنا في القطار للسيدات، بينما يجلس الشباب الموفور الصحة في عمر ابنائهن، بلباس فاسد الذوق، يلتهمون المكدونالد ويبحلقون في آخر الرجال المحترمين، المتمسكين بتقاليد ما قبل الستينيات.

العواجيز يمسكون الباب لمدام او مدموزيل، حتى ولو كانت في سن ابنتي، لتمر او تنزل من السيارة. يرفعون القبعة عند مرور سيدة. ويقبلون يدها بأدب جم عند التعارف أو الانصراف. ولن أنسى صفعتي أبي، رحمه الله، على وجهي ووجه ابن عمتي في سن العاشرة، لانشغالنا عن الوقوف احتراما لدخول زوجة عمي، انيسة هانم، الغرفة. وتجد الرجال اليوم، بريطانيين او مصريين، جالسين بوقاحة، سواء في صالون او الى مائدة طعام، اثناء دخول سيدة او نهوضها من مقعدها، من دون ان يحركوا ساكنا.

أما جهل أشباه الرجال اليوم بأدب وأخلاق المائدة، مثل أي سكين او أي شوكة يستخدمون مع أي طبق، فهو آفة اجتماعية لم يخطر ظهورها في القرن الواحد والعشرين ببال أبي. فالأب، الذي علمني كيف اربط عقدة الببيون وأنا في السادسة، كان يعاقب، بصرامة، الولد الذي يجرؤ على الجلوس لمائدة العشاء او يدخل عليه بكرافتة غير مربوطة، او بجاكيت مفتوح، فذلك سلوك « الزلنطحي» وليس الأفندي المحترم.

كيف يتعلم الولد اخلاق المائدة، عندما يعود من المدرسة الى منزل بلا أم ؟ ـ خرجت للعمل مساواة بالرجل! وكيف تتعلم البنت التدبير المنزلي ومهارات الأنوثة، بعد أن الغيت من التعليم بانتصار الـFeminism الثورة النسوية ؟

ويجلس الولد ـ في دار بلا ربة ـ يلتهم بأصابعه «تيك اواي» او «جيفة» في الميكروويف. يحدق ببلاهة في نجم مشهور، في دور وزير او رجل اعمال ناجح، يرتدي الجينز، ويتكلم في التلفزيون المصري، او يهز رأسه مع ضجيج كلمات لا معنى لها في غرفة الجلوس البريطانية.

لا اذكر رؤية جدي، الذي خرج على المعاش عام 1948 كناظر مدرسة رأس التين، مرة واحدة، خارج غرفة نومه، دون بدلة انيقة وكرافتة وياقة منشاة، والطربوش شتاء، والقبعة «البنما» صيفا، حتى لو كان سيجلس فقط لتناول القهوة في الشرفة المطلة على البحر المتوسط. لكني اذكر غضبته عام 1954، وهو يرى في جريدة «المصري» صورة اللواء محمد نجيب، اول رئيس لمصر بعد الانقلاب العسكري، ويقرأ خبر استقباله زائرا رسميا، مستبدلا الطربوش، غطاء رأس الضباط المصريين رسميا، «بكاسكيت» الجيش الإنكليزي. وهذا في عرف عبد الغني افندي، الذي شارك في الحركة الوطنية بزعامة مصطفى كامل باشا ضد الوجود العسكري الإنكليزي، خيانة قومية، وإهدارا لرمز وطني ينذر بسلسلة من التنازلات والتفريط، قد تنتهي ببيع الهرم الأكبر. لكنها اوصلتنا، بعد اربع سنوات فقط، لما هو افدح، بإلغاء البكباشي جمال عبد الناصر، من دون تصويت برلماني، اسم السبعة آلاف عام «مصر» من الوجود. فكان الاختلاط والتشوش في عقل المصريين وفقدانهم الهوية القومية وبحث شبابهم ـ الذي يأكل «التيك اواي»، ولا يعرف ربط الببيون، او فتح الباب للسيدات ـ عنها في ايدولوجيات الإرهاب والعنف والكراهية.

وكزملائهم في مصر، فقد معظم شباب بريطانيا القدوة الحسنة بالتخلي عن قيم العصرين الإدواردي والفيكتوري ـ التي حرص جيل الأفندية والهوانم عليها بشدة.

ادت الـ Feminism نظرية المساواة بين الجنسين) بالولد الى فقدان الاتصال المستمر بالأب بعد الطلاق، بينما تنتهك أذنيه يوميا وخزات نعت الأب والرجال عامة بالسلبية من شفاه ام غاضبة، وصديقاتها النسويات. ويحرم في المدرسة من قدوة رجالية «يقف لها تبجيلا»; فالحركة نفسها انتهت بغزو المعلمات للمدارس بأضعاف عدد المعلمين، «المخصيين فكريا» بقيم الستينات، متناسين دور المعلم الذي «كاد أن يكون رسولا»، فاستبدلوا بذلة عبد الغني افندي الأنيقة بالجينز. أما أولاد الثلثين الباقيين من الأسر، فليسوا اسعد حظا، فالحكومات المتعاقبة تناست ان «الأم مدرسة اذا اعدتتها... أعددت شعبا طيب الاعراق»، فرفضت، بحجة المساواة بين الجنسين، توفير ميزانية لتفرغ الأم لوظيفتها الطبيعية السامية كربة اسرة لرعاية وتنشئة الأولاد، ودورها كجسر لنقل التراث الاجتماعي والحضاري بين جيلين، ابتداء من التصرف بمسؤولية واحترام الآخريين، وانتهاء بالإلمام بذوق اختيار الملابس وأخلاق المائدة، مرورا بالوقوف عند دخول «الهانم» غرفة الجلوس.

سمعت جدي، ومعلمي الإنكليزي المستر نايت، رحمهما الله، يهمسان: المستر بلير على حق، ونرجو ألا يكون آخر الرجال المحترمين في بريطانيا.