الأجرد والملتحي

TT

جديد العالم البريطاني ستيفن هوكنج الذي فاجأنا به الأسبوع الماضي أن الثقوب السوداء في الغلاف الكوني ليست النهاية فما يدخلها يواصل ارسال الذبذبات الاشعاعية وقد يعود بصيغة أخرى، وهذا يتناقض مع ما قاله لنا قبل ربع قرن من أن كل ما ينجذب إلى الثقب الأسود بما في ذلك الضوء يتلاشى إلى غير عودة، فهل الثقوب السوداء القادرة على ابتلاع النجوم والكواكب أرحام ضخمة أم محارق مدمرة؟

لا يوجد جواب حاليا فالعلم ما يزال يقف حائرا أمام ظواهر كثيرة ومن الظلم ان نحمله كما نحمل الفكر أكثر مما يحتمل فدور العالم والمفكر أن يحكي قناعاته وينشر نتائج أبحاثه، وحين يظهر ما يناقض تلك الأفكار والنظريات يصحح أصحابها الفرضيات الاساسية بأمانة كاملة على ضوء الجديد والطارئ الذي لم يكن بالحسبان في المرحلة الأولى.

ستيفن هوكنج أتانا صوته عبر الجهاز الخاص الذي يحكي من خلاله ليؤكد انه ظل يفكر في مشكلة الثقوب السوداء وما يدخلها ثلاثين عاما، وأن الجديد الذي توصل اليه يختلف عن قديمه وتمثل تلك الكلمات على قلتها انقلابا في التفكير العلمي تماما كما كانت نظرية ماركس انقلابا على التفكير الفلسفي كما استقر منذ الجدل الهيغلي.

كارل ماركس ذلك المفكر الضخم ظل يقول للناس طوال حياته (أنا لست ماركسيا) وكان محقا فنظريته ليست جامدة ولا على مقاسه وحده، لكنهم مركسوه غصبا عنه، وأحالوا جدله الحي الى جماد ميت فكانت الكارثة في المفسر وليس في الفكرة ولا في الظاهرة، ونتيجة لذلك الفهم الخاطئ دفعت البشرية الثمن حروبا ومجاعات وتجارب قسرية فشلت وتلاشت بعد أن أخذت معها أحلام أجيال بأكملها.

ولا أعرف حتى الآن على وجه التدقيق لماذا كان فريدريك انجلز صديق ماركس يطلق عليه لقب (المراكشي) وطبعا لم أتورط بسؤال الماركسي العريق الدكتور عبد الرزاق عيد عن ذلك فهو ومنذ كنا طلابا في جامعة حلب نسأله سؤالا لا يحتاج جوابه الا الى جملة قصيرة أو كلمتين، فيجيب بمحاضرة من عشر صفحات تحتاج الى خمس مجلدات لتفسيرها مما يجعلك تلعن الساعة التي فكرت فيها بسؤاله.

التفسير الأقرب للذهن في الدعابة الرفاقية هو قضية اللحية المميزة ففي ساحة الفنا بمراكش كل لحى السحرة والمشعوذين مميزة وضخمة، ولو جلس ماركس في تلك الساحة التي تعيش غرائبها منذ قرون لبدا في مكانه الطبيعي حتى وإن لم يكن في يده دف ولا أمامه جراب الأفاعي.

وعودة الى السياق فالعلم والفكر بغض النظر عن المفكر الملتحي والعالم الأجرد يظلان نسبيين وقابلين للتصحيح والتفسير والاضافة، فما من كلمة نهائية في هذا الكون الا لخالقه وكل من يدعي العلم والمعرفة يدرك انه يعرف شيئا وتغيب عنه أشياء كثيرة فالصورة الكلية لا يدركها إلا الفنان الكبير والمبدع الاعظم.

وما كل هذه المحاولات لاختراق دائرة التكوين من أطرافها المدببة الملونة للوصول الى أسرار ثقوبها السوداء الصاهرة الا مغامرة أخرى في سياق المغامرات الكونية التي يحاولها الانسان من عصر الأسطورة الى عصر العلم فينجح ويخفق، لكنه يحاول دوما ويواصل التحليق بجسارة فوق العقبات، فالعلم والفكر جناحا بشرية طموحة، كلما فكت أسرار لغز كوني مغلق اكتشفت خلف ذلك اللغز خزانة أخرى من الألغاز المحيرة والأسرار الغامضة.

[email protected]