ضرب الفساد أصبح حاجة وطنية فلسطينية

TT

هل يشكل انفجار الوضع في قطاع غزة مفاجأة؟ إن المفاجأة الحقيقية هي كيف تأجل الانفجار حتى الآن.

إذا أخذنا الوضع المعيشي والاجتماعي نقطة انطلاق، نجد حالة قاسية من البطالة، وانعدام الدخل، والعيش تحت مستوى الفقر. وإذا أخذنا الوضع الأمني نقطة انطلاق، نجد درجة عالية من القتل والتدمير يندر وجود مثيل لها، إلا حيث يحل الجيش الأميركي، فعدد البيوت التي تدمر، وعدد الناس الذين يصبحون بلا مأوى، وعدد الأشخاص الذين يتم اغتيالهم بصواريخ الطائرات، وتجريف الأراضي بحجة كشف مناطق اختباء المقاتلين، ومصادرة الأراضي رسميا وعلنيا من أجل بناء الجدار العازل، كل ذلك يخلق حالة أمنية مريعة من شأنها أن تدفع الناس إلى حافة اليأس والانفجار. وإذا أخذنا الوضع الإداري الفلسطيني نقطة انطلاق، نجد شكوى تتسع باستمرار من وجود رجال فاسدين في مواقع الإدارة والنفوذ، رجال يعملون على استغلال المنصب لمصالحهم الشخصية، ومن أجل الابتزاز وفرض الخوات أحيانا، ومن أجل العمولات أحيانا أخرى، وكل ذلك من دون أن تبادر قيادات السلطة إلى محاسبتهم ومعاقبتهم.

وبهذا نجد أن عوامل الانفجار متوفرة وقائمة بكثرة، يعرفها الناس ويشكون منها، ولكنهم يصبرون ولا ينفجرون، وعيونهم تترصد معركتهم الوطنية الكبرى مع المحتل الإسرائيلي. ويتعايش هذا الوضع الشعبي والنفسي والوطني والاجتماعي، مع حالتين متنافرتين:

في الحالة الأولى: نجد قيادة فلسطينية محاصرة وممنوعة من التنقل، ومن الاتصال بشعبها، سواء على مستوى القيادة العليا (عرفات) أو على مستوى الكوادر والقيادات الوسيطة، حتى أن الحكومة الفلسطينية لا تستطيع أن تجتمع أحيانا بشكل رسمي لأن أعضاءها في قطاع غزة ممنوعون من الوصول إلى الضفة الغربية، وكذلك الحال في المجلس التشريعي، وفي قيادة حركة فتح. وحين يفرض حصار على مدينة ما، مثل نابلس أو جنين، فإن الاتصال مع المدينة يبقى مقطوعا طوال فترة الحصار.

وفي الحالة الثانية: نجد قيادات محلية تبرز وتقوى وتصبح هي سيدة الساحة، تعمل حسب درجة وعيها السياسي، تحسن التصرف أحيانا وتخطئ أحيانا أخرى، وتظهر فيها أمراض التسلط الذي يولده السلاح حين يكون في أيدي الناس، كما تظهر فيها أمراض التطرف المألوفة لدى الشباب بشكل عام. وتبدأ هذه القيادات تشعر مع الزمن بقدرتها على الاستقلالية، ثم بقدرتها على اتخاذ القرار المنفرد، ثم بقدرتها على التمرد إذا لم يعجبها توجيه ما، أو موقف سياسي ما. وحالة كهذه هي تربة صالحة للتمرد والانشقاق ونمو الفوضى، بينما لا تملك القيادات العليا وسائل اتصال يومية تمكنها من المعالجة.

ويزداد الوضع خطرا حين يبدأ العدو المحتل محاولاته لاستغلال هذه الحالة لصالحه، فيواصل تقطيع الأوصال جغرافيا وسياسيا، لكي يصل إلى هدفه في إسقاط وإنهاء وجود السلطة الفلسطينية، ولكي يصل إلى هدفه في الضغط على المناخ الشعبي، أمنيا واجتماعيا، لكي يصل إلى مرحلة الانفجار في وجهها.

ثم يصبح الوضع أكثر خطورة بكثير، حين يوجد في وسط المسؤولين، أو الكادرات، أشخاص طموحون يتطلعون إلى احتلال المواقع القيادية الأولى، معتبرين أن ذلك من حقهم، ولكنهم لا يمتلكون وسائل الوصول إلى تلك المواقع، ويبدأون بالبحث عن عوامل مساعدة. وهنا يأتي التدخل الأجنبي، ليقول لهم بأنه على استعداد لكي يسهل لهم عملية الوصول، ومستعد أن يوفر لهم الإمكانيات اللازمة للوصول إلى الهدف، سواء كانت مالا أو سلاحا أو تخطيطا. وهنا نستطيع أن نقول، وبكل ثقة مؤلمة، إن الوضع الفلسطيني قد وصل إلى تخوم هذه النقطة، وإن ما شهدته غزة من انفجار كان بسبب تلاقي هذه العوامل مجتمعة. فقد وجدت الأزمة (الاحتلال)، ووجد الخلل (الفساد)، ووجد الطامحون والمستعدون لتقديم التنازلات، وحانت لحظة التفجير.

من المهم ومن الضروري أن نتحدث عن الفساد الفلسطيني، وأن هذا الفساد يزداد ولا يتقلص، وأن هذا الفساد لا يواجهه المسؤولون بصرامة، وأن الأوان قد آن للتحرك ضده. ولكن من المهم ومن الضروري أيضا أن نرى إلى العدو الذي يتربص، وإلى الطامحين الداخليين الذين يحركهم طموح غير مشروع يصل إلى حد التواطؤ مع المحتل من أجل تحقيق نجاح شخصي، وأن نبحث عن دورهم في تحريك انفجار غزة.

لقد بدأت القصة كلها يوم 24/6/2002 . في ذلك اليوم ألقى الرئيس جورج بوش خطابه الذي عرف باسم (رؤيا بوش)، وأعلن أنه سيعمل من أجل إنشاء دولة فلسطينية تقوم إلى جانب دولة إسرائيل. ولكن رؤيا بوش هذه كانت مشروطة بـ (تغيير القيادة الفلسطينية). وقد تلقف هذا الشعار بسطاء وخبثاء. البسطاء قالوا إذا كان هذا هو ثمن إنشاء الدولة الفلسطينية فليسلم عرفات الراية إلى قائد آخر يتولى إنشاء الدولة. أما الخبثاء فكانوا يعرفون أن المطلوب ليس تغيير عرفات الشخص، بل تغيير العقلية النضالية الفلسطينية، من أجل أن تقبل القيادة الفلسطينية الجديدة، خطة إسرائيل للتسوية، اي تلك الخطة التي رفضها عرفات، ولا يزال يرفضها حتى الآن. تتضمن الخطة الإسرائيلية أشياء كثيرة.

تتضمن أراضي فلسطينية جديدة يتم التنازل عنها.

وتتضمن سيادة منقوصة للدولة الفلسطينية يتم القبول بها.

وتتضمن قدسا تضيع وتبقى تحت السيادة الإسرائيلية.

وتتضمن تخليا كاملا ونهائيا عن قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم.

ثم تتضمن ما هو أشد من ذلك وأقسى، وهو أن تتولى القيادة الجديدة البديلة، ضرب وقمع المناضلين الفلسطينيين صانعي الانتفاضة وتضحياتها في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

هذا هو المضمون الحقيقي لكل المواقف الإسرائيلية، والأميركية، والغربية، والعربية، والفلسطينية، التي تظهر فجأة لتتحدث عن ديكتاتورية عرفات، وفساد رجال عرفات، وعن ضرورة توسيع صلاحيات رئيس الوزراء، وعن تسليم وزارة الداخلية لشخص واحد أحد، لأن هذا الشخص هو الفلسطيني الوحيد الذي كشف عن استعداده لتنظيم حمام دم ضد المناضلين الفلسطينيين، تحت شعار مقاومة الإرهاب، أو إنهاء عسكرة الانتفاضة.

والفساد... هو نقطة الضعف الفلسطينية في هذا الوضع المتشابك والمتأزم، وتأجيل عرفات لأي معركة مع الفساد إلى أن تنتهي المعركة الأساسية مع الاحتلال، هي نقطة الضعف في موقفه، وهي النقطة التي يستغلها الفاسدون لمواصلة فسادهم، ويستغلها الطامحون المتآمرون للتشهير بقيادته. ولذلك فقد أصبحت مواجهة هذا الوضع الفلسطيني المتشابك والمتأزم، تستدعي موقفا جريئا ضد الفساد والفاسدين، يعلنه عرفات، من أجل أن يزيل الغيمة التي تحجب الأنظار عن حقيقة المعركة حول القضية الوطنية وشروطها.