أميركا والقذافي.. احتضان الديكتاتور !

TT

عندما أنهت الولايات المتحدة جمودا استمر 24 عاما، وأعادت العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا في الثامن والعشرين من يونيو الماضي، كانت بهاء العمري، زوجة منصور رشيد الكيخيا، وزير الخارجية الليبي الأسبق الذي انضم الى المعارضة، أول من خطر في تفكيري، خصوصا انني كنت اجريت مقابلة معها في القاهرة قبل ما يزيد على عشر سنوات خلال واحدة من رحلاتها الكثيرة الى المنطقة لمعرفة ما الذي جرى لزوجها.

وكان منصور الكيخيا قد اختفى خلال وجوده في العاصمة المصرية في ديسمبر 1993 خلال حضوره اجتماعا لمنظمة حقوق الانسان العربية التي شارك في تأسيسها. ولكن قضيته ضاعت بيسر في خضم جرائم اخرى أكبر وأكثر دموية ارتكبها عملاء للنظام الليبي، مثل تفجير طائرة «بان أميركان« عام 1988 الذي أودى بحياة 270 شخصا. والواقع ان معمر القذافي كان قاسيا مع الليبيين أيضا، وينبغي الا تعمينا تصرفاته الغريبة المختلفة عن رؤية الدولة البوليسية التي يقف على رأسها منذ تولى السلطة في انقلاب سبتمبر 1969.

ربما يتنقل القذافي مع حارسات يحملن الكلاشنيكوف، وقد ينصب الخيام في بلده وخارجه لإجراء محادثات مع المسؤولين، وربما يكون قد كتب بعض «الكلاسيكيات»، مثل المجموعة القصصية «القرية.. القرية، الأرض.. الأرض، وانتحار رائد الفضاء»، ولكن ما من شيء من هذه الأشياء ينبغي ان يصرف انظارنا عن سجله في مجال حقوق الانسان. فالاعتقالات التعسفية، والصحافة المكممة الأفواه، وحظر الأحزاب السياسية، وتبديد ثروة ليبيا النفطية، لم تكن أبدا اشياء مضحكة بالنسبة لليبيين.

الكيخيا فر الى الولايات المتحدة في الثمانينات وأقام هناك، وكان أمامه أربعة اشهر فقط للحصول على الجنسية الدائمة عندما ذهب الى مصر. وكان لقائي مع زوجته، وهي مواطنة اميركية، قد جعلني اشعر بالحزن الشديد تجاهها واسرتها، لا سيما انني شعرت بالأسى لانه اختفى في بلدي.

لم اتمكن من نسيان بهاء اثناء مهمة صحافية في طرابلس عام 1996، راقبني خلالها موظف من الحكومة الليبية طوال وجودي هناك، وسألني مسؤول في وزارة الاعلام: لماذا انتقدت ليبيا في التقرير الذي بعثت به الى وكالة «رويترز»؟

ولن انسى عائلة منصور الكيخيا الآن، ولا الآخرين الذين عانوا من نظام القذافي، لمجرد انه قادر على قول الاشياء التي يريد الاميركيين والبريطانيين منه قولها. فقد وافق القذافي على تحمل ليبيا المسؤولية عن نسف طائرة بان اميركان، ووافق على دفع تعويضات الى اسر الضحايا (هل دفع تعويضات الى بهاء العمري؟) كما وافق على وقف البرنامج الليبي للاسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. واذا ما كان هذا الجزء الاخير يبدو معتادا فهو صحيح. فالرئيس الاميركي بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، يريدان منا الاعتقاد ان تحول القذافي نحو واشنطن ولندن يرجع الى خوفه من ان ينتهي مثل صدام حسين. وبالمناسبة، فإن عائشة، إبنة القذافي، وهي استاذة قانون، انضمت الى فريق المحامين المدافعين عن صدام.

ولأن أسلحة الدمار الشامل التي كانت مبررا للحرب لم يُعثر عليها، فإن بوش وبلير مصران على التمسك بنظريتهما حول أن «الحرب ضد الإرهاب» وغزو العراق سيطوعان الدول المارقة ويجعلانها حريصة على الالتزام بالقانون الدولي. ولكن هذه الحجة غريبة جدا. فإذا كان غياب أسلحة الدمار الشامل، من جانب، وصور صدام حسين وهو يواجه المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، من جانب آخر، يضخمان من حجة «إسقاط دكتاتور متوحش» كمبرر لغزو العراق، فإذن، كيف يبررون احتضانهم لدكتاتور فظ آخر؟

لقد كانت تصرفات القذافي في الفترة الأخيرة قريبة قربا غير مريح من التصرفات الدموية. ففي مايو الماضي، حكمت محكمة ليبية على خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني بالإعدام رميا بالرصاص بعد ادانتهم بنقل فيروس الإيدز لأكثر من 400 طفل. جرى ذلك بعد شهرين فقط من زيارة تاريخية قام بها بلير ومعه جمع من أصحاب الأعمال البريطانيين المتعطشين للاستثمار في تلك البلاد النفطية. الفريق الطبي تمسك ببراءته، وقال المدانون انهم تعرضوا للتعذيب من قبل الشرطة، بما في ذلك الضرب اليومي والاعتداء الجنسي والصدمات الكهربائية. وكان من ضمن الخبراء الذين جرى استدعاؤهم للشهادة عضو في الفريق الذي اكتشف فيروس الايدز، وهو قال ان السبب في هذا الوباء يعود للوضع المتدهور لصحة البيئة داخل المستشفى وليس مؤامرة دولية. أليست بلغاريا التي تنتمي اليها الممرضات الخمس عضوا في «تحالف الراغبين» كما يسمي بوش الدول التي أيدت غزو العراق؟

وثمة أمر آخر. ففي الوقت الذي كانت ليبيا تتفاوض سريا بشأن استئناف العلاقات مع الولايات المتحدة وبريطانيا، اشتبك القذافي مع ولي العهد السعودي، الامير عبد الله بن عبد العزيز، خلال القمة العربية في شرم الشيخ في مارس الماضي. وكما هو معروف، هاجم القذافي العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة. لكن الأمير عبد الله رد عليه بقوة، وقد تبين الآن ان القذافي خطط لاغتيال ولي العهد السعودي. أليس هذا اقرب الى ممارسة الارهاب الذي ترعاه الدولة؟

خلال حديثه العام الماضي في وايت هول (مقر الحكومة في لندن) اقر بوش بأن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تلتزما دائما بمبادئ واسس الديمقراطية عندما يتعلق الامر بالشرق الاوسط. وقال بوش مخاطبا توني بلير ان الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا على استعداد في الماضي للتوصل الى تسوية تغض النظر عن القمع من اجل الأمن والاستقرار.

حقا، ليس من الصعب تخيل ان مثل هذه التسوية، الى جانب بعض عقود النفط والسلاح على الطريقة القديمة، هما الدافع وراء استئناف العلاقات مع ليبيا.

[email protected]

* كاتبة مصرية مقيمة في نيويورك ومديرة تحرير موقع eNews الانترنتي المختص بشؤون المرأة العربية

ـ خدمة «واشنطن بوست»