«الإخوان المسلمون» .. من يحرم الآخر من الديمقراطية؟

TT

حينما قدم الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح، عضو مجلس الإرشاد بجماعة «الإخوان المسلمين»، لمداخلته في «مؤتمر أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربى»، المنعقد في القاهرة في 5 - 7 يوليو الحالي، بالحديث عن التجربة الديمقراطية الأميركية، من خلال مجموعة كتابات يسارية أميركية وغربية، كان في الحقيقة يقدم فاصلا بين التجربة العالمية في الديمقراطية والإصلاح، ونموذجا آخر مختلفا يحقق ما أسماه « الديمقراطية الإنسانية»، يمثل جوهر «المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل».

ولا أدري شخصيا، لماذا ينحو الفكر الإخوانى لهذا الانفصال، ويحرم التجربة الإسلامية من التعرف على ما فعله الآخرون في الغرب خلال القرنين الماضيين، من أجل الحريات العامة وتوازن السلطات، والتواصل مع فكر إنساني كانت له تطبيقاته المختلفة للتعامل مع إشكاليات متعددة، مثل الدين والدولة، والأغلبية والأقلية، والفرد والجماعة.

ولكن، ربما جاءنا التفسير من أن المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل، أكثر رقيا في التعامل مع كل هذه الإشكاليات من الناحية الإنسانية، التي يبدو أنه تم سحقها بأدوات المال وأدوات الدعاية. ومع ذلك فإن القراءة اللصيقة لما جاء به الأستاذ عبد المنعم أبو الفتوح، تجعلنا أمام نوع من الفكر السائد في العالم الثالث على وجه العموم، والذي يبدأ برفض ما فعله الغرب، زاعما أنه سوف يقدم ما هو أرقى، وإذا بنا في النهاية أمام أشكال جديدة من الفكر الاستبدادي المعروف. وربما كان مفتاح الموضوع موضحا عندما تركز الأطروحة الإخوانية، على أن مفهوم الإصلاح الذي ينشده التيار الإسلامي، «وفي القلب منه الإخوان المسلمون»!، «يدور حول معنى التنمية المستديمة الذي يشمل الإنسان والدولة والمجتمع، ويتغلغل في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية...». هنا فإن الإخوان لا يأخذون بالمعنى المتواتر عالميا عن التنمية المستديمة، والتي تعني أن يكون المجتمع قادرا باستمرار، على إعادة خلق عملية التنمية، بعد وصوله إلى درجة بعينها من التقدم، فإن التنمية تعيد توليد نفسها، تماما كما يفعل جهاز تكييف الهواء حينما يعيد تشغيل نفسه إذا ما وصلت حرارة المكان إلى درجة معينة، إنها اللحظة التي يعبر فيها كيان اجتماعي لحظة الانطلاق. وعلى خلاف مع ذلك، فإن المفهوم الإسلامي للتنمية المستديمة يعني الفعل الشامل لأبعاد مختلفة، فهو لا يعني تكامل مجموعة من الشروط في الواقع، ولكنه سلسلة من الإجراءات التي يتخذها طرف ما لا نعرفه وغير محدد، ولكننا يمكن أن نستنتج أنه السلطة السياسية ـ الإخوانية ـ على الأرجح التي سوف تقوم بهذا العمل الشامل.

وعند هذه اللحظة تماما، نجد أنفسنا وجها لوجه مع نفس الفلسفة التي قادت العالم الثالث كله، خلال النصف قرن الماضي، تحت أردية وطنية وقومية وحتى ماركسية، ففي كل هذه الفلسفات كان الوعد هو «التنمية الشاملة» التي ستغير كل شيء. في كل ذلك لا توجد دعوة لكى يقرر الأفراد والجماعات ويشاركون في صياغة عمليات التغيير في المجتمع، ولكن لدينا قدرة مثالية على تحديد رغبات المجتمع وتوجهاته. صحيح أن أطروحة الأستاذ أبو الفتوح، تقدم لنا ما يثلج الصدر في مجال الحرية، باعتبارها الدائرة الأساسية حول الإنسان، الذي هو جوهر التنمية، والذي بغيابها يحل بالبشر أعظم كارثة، وأكثر من ذلك فإنه يطرح «حرية المشيئة» باعتبارها المفهوم الإسلامى للحرية.

ولكن كما هو معروف دوما، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل. فبعد أن أعطى للإنسان مشيئته الحرة في الاختيار، نجد أنفسنا فجأة أمام مجموعة من الحقائق حول «الحرية»، تبدأ بما هو معروف عن قدرة الإنسان على الرفض والقبول. نجد أنفسنا فجأة أمام «ليس هناك مجال للحرية بالمعنى المطلق، فلا بد أن تنتظم تلك الحرية مع قيم المجتمع ومبادئه وأعرافه». هذه القاعدة متوافرة في كل المجتمعات الديمقراطية الغربية، فلا توجد حرية مطلقة بالفعل، ولكن القيود المقررة على الحرية يقررها المجتمع نفسه من خلال آليات ديمقراطية، ولا تقررها له السلطة السياسية أو هذا التيار السياسي أو ذاك. الأهم من ذلك، أنه حتى مع الثبات النسبي لقيم المجتمع ومبادئه وأعرافه، فإن هذه القيم قابلة للتغير والتبدل حسب درجة نمو المجتمع وتأثره بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي في العالم. ومرة أخرى فإننا هنا نشتم ـ وقد نكون على خطأ ـ أن قيم المجتمع ومبادئه وأعرافه قد تم تحديدها مسبقا من قبل وجود النظام السياسي، من قبل اتجاه سياسي بعينه، حدد ما يراه تجسيدا «للثوابت» التي لا يجوز الحيدة عنها. وربما كان الأخطر هنا، أن تكون المرجعية الخاصة بقيم المجتمع ومبادئه وأعرافه ليست القانون والدستور ـ أي توافق عليه المجتمع من خلال «حرية المشيئة» ـ ولكن من خلال تفسيرات فقهية لنصوص دينية لم تتعرض لاختيارات المشيئة.

هنا على وجه التحديد، يكمن التحدي، الذي على الإخوان المسلمين أن يواجهوه في المجتمع السياسي الذي يقوم على «حرية المشيئة»، حيث يكون للفرد فيه قيمة، وصوت سياسي وانتخابي، بل وصوت اجتماعي وثقافي. ولعل ما قال به عبد المنعم أبو الفتوح، من أن الخطاب الإسلامي خطاب بشري، وليس خطابا مقدسا، يمثل خطوة متقدمة في الفكر الإسلامي الذي يسمح بتعدد الاجتهادات في فهم نصوص الإسلام. ولكن القضية في الدولة التي تقوم على «الحرية»، أنها تقرر سياساتها وفقا للقانون والدستور وليس وفقا للنصوص الفقهية، اللهم إلا إذا كان النص الديني هو دستور الدولة، التي تتنازع وتختلف فيه الاجتهادات. وإذا كان الأمر كذلك، فإن القاعدة التي قال لنا بها عبد المنعم أبو الفتوح، أن هناك مساواة بين الناس أجمعين في ممارسة الحقوق، تصبح لا وجود لها، على الأقل بالنسبة لغير المنتمين لذات النصوص الدينية، وأكثر من ذلك، بالنسبة لمن يرون ضرورة ممارسة العلم بشؤون الدنيا، وكذلك ممارسة حرية المشيئة في تقرير مصير البشر والأمة.

هنا، فإننا تدريجيا، رغم نقاط متقدمة هنا أو هناك، خاصة مع استنكار العمل المسلح في مرحلة الدولة الوطنية، فإننا نواجه الفلسفة السائدة في كثير من دول العالم الثالث التي تسبق فيها الفكر مشاركة الإنسان وممارسته لحريته ومشيئته. وعندما يقول لنا الفكر الإخواني الإصلاحي، إن «ميدان (صناعة الإنسان) وصياغته الربانية السليمة هو أهم ميدان في حركتنا نحو الإصلاح»، يعيد إلى الأذهان فورا، ما كان يقال في ظل نظم عربية عديدة عن ضرورة «إعادة بناء الإنسان». هنا تختفي تماما مشيئة الإنسان التي يكتسبها من خلال المجتمع والتعليم والاشتباك مع اختيارات سياسية واجتماعية واقتصادية متنوعة، تقدمها له قوى سياسية مختلفة تمارس الحرية في المناقشة والحوار، وفى النهاية الاختيار. ويصبح لدينا عملية «صناعة» وعندما تكون هذه «الصناعة» ربانية، وسليمة، فإننا نصبح أمام محاولة لا تختلف كثيرا عن محاولات النظم النازية والشيوعية والفاشية والاشتراكية التي تحاول صب الإنسان في قالب لا يعرف المشيئة، ولا حريتها!

* رئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية