«فتح» لم تعد «رقما لا يقبل القسمة»

TT

لا أحد لديه أي تصور مقنع حول ما يمكن ان ينتهي إليه الوضع الفلسطيني، حيث على صعيد حركة «فتح»، التي هي الحزب الحاكم أصبح هناك خطابان يبدو ان لقاءهما غدا في غاية الصعوبة ويحتاج الى معجزة، فهناك اتجاه بات يرى أنه لا أمل بأي إصلاح ولا بأي تغيير ما دام ان ياسر عرفات على رأس منظمة التحرير وعلى رأس السلطة الوطنية وعلى رأس «فتح» نفسها، وهناك اتجاه آخر يقابل هذا الاتجاه يرى ان إسرائيل هي التي تحرك خيوط «الاصلاحيين» وان الهدف هو التملص من دفع استحقاق الدولة الفلسطينية، وان استهداف الرئيس الفلسطيني هو استهداف لهذا الاستحقاق، وأنه لا بد من التخلص من التيار «المتمرد» إن لم تكن هناك إمكانية لاستيعابه.

فإلى أين تتجه الحالة الفلسطينية كلها، عرفات والذين يؤيدونه ويذودون عنه، و«الإصلاحيون» بكل صنوفهم ومقاصدههم واتجاهاتهم وارتباطاتهم، والصامتون الذين لا يريدون ان يحسبوا لا على هذا الطرف ولا على ذاك قبل انتهاء المعركة، هذا بالإضافة الى «المعارضة» التي تنتظر أن تأكل النار بعضها فتتحرك في الوقت المناسب...؟!

إن من يستمع الى حجج الإصلاحيين الذين يقودهم ميدانياً، في غزة، العقيد محمد دحلان، والذين يتحلقون حول محمود عباس (أبو مازن) وينطق بإسمهم إعلامياً نبيل عمرو، الذي جرى نقله قبل ثلاثة أيام من عمان الى احد مستشفيات ميونيخ في ألمانيا بعد تعـرضه لمحاولة الاغتيال التي جرت الاسبوع الماضي، يصل الى قناعة بأن حركة «فتح» لم تعد رقماً لا يقبل القسمة، كما وصفها ذات يوم آباؤها المؤسسون، وان الافتراق بين جناحي هذه الحركة التاريخية التي قادت النضال الفلسطيني لنحو أربعين عاماً غدا حقيقة متجسدة على الارض علاوة على القلوب والنفوس وفي كل الاتجاهات والمجالات.

وإن مـــن يستمع الى حجج الذين يقولون انهم يدافعون عن الشرعية المتجسدة بالرئيس عرفات وزعامته يستنتج ان الهوة باتت واسعة وسحيقة مع الطرف الآخر، وأن «قانون المحبة» الذي كان يحسم مثل هذه الخلافات في السابق أصبح الآن يقف عاجزاً أمام «فلتان» أمني وسياسي وأخلاقي وتنظيمي سينتهي، إذا لم تقع المعجزة التي ينتظرها البعض، الى حرب أهلية إن لم تكن في كل الاراضي الفلسطينية المحتلة ففي قطاع غزة وحده على الأقل.

ولعل هذا الوضع الذي تعيشه الحالة الفلسطينية يذكر الذين اشتعلت رؤوسهم بالشيب بما جرى في الجزائر وفي «اليمن الجنوبي» عشية وغداة الاستقلال، حيث سادت ظروف، وهي وإن كانت لا تتطابق كلياً مع الظرف الفلسطيني الملتهب القائم حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة، الا أنها تشبهه في الصراع على السلطة والدخول في سلسلة متلاحقة الحلقات من التصفيات الجسدية والسياسية.

في الجزائر استطاع هواري بومدين بحزمه، الذي كان يصل حدود القسوة، أن يحسم الأمور بسرعة عندما انفجر الاقتتال الداخلي في العاصمة بمجرد دخول جيش التحرير أحد أحيائها، كما استطاع ان يحسم الميوعة السياسية التي كانت تدفع البلاد نحو الانقسام بعد ذلك بنحو عامين، ولقد ساعده على ذلك أن الشعب الجزائري كان ملَّ الدماء والحروب والتصفيات الداخلية، وأن الثورة الجزائرية أصلاً كانت رفضت التعددية التنظيمية ومنعتها بقوة السلاح.

أما في «اليمن الجنوبي» فقد بدأ الصراع مبكراً بين الجبهة القومية بقيادة قحطان الشعبي المدعومة من قبل مصر وجمال عبد الناصر، وجبهة تحرير الجنوب بقيادة عبد الله الأصنج، التي كانت تتلقى مساعدات من سوريا وحزب البعث وبعض دول الخليج. ولقد انتهى هذا الصراع بانتصار الطرف الأول الذي فرض نفسه على أنه المفاوض الوحيد مع البريطانيين بينما الطرف الثاني انكفأ على نفسه ولم يعد مؤثراً في سلسلة الأحداث الدامية التي تلاحقت في هذا البلد بين أبناء التنظيم الواحد والعقيدة السياسية الواحدة على مدى العقود اللاحقة.

المشكلة بالنسبة لحركة «فتح» تكمن في انها لم تخرج من صلب تنظيم حزبي حديدي كـ«الجبهة القومية» في اليمن الجنوبي التي تكونت في رحم حركة القوميين العرب التي كان شعارها: «دم حديد نار.. وحدة تحرر ثار»، وأنها أي حركة «فتح»، ولأسباب كثيرة، لم تستطع فرض نفسها كتنظيم وحيد في الساحة الفلسطينية على غرار جبهة التحرير في الساحة الجزائرية، وأنها بقيت تنظيماً فضفاضاً لايلتزم بعقيدة سياسية واحدة، وأنها بدأت تجمعاً لتنظيمات تشكل كل تنظيم منها في ظروف وأوضاع غير الظروف والأوضاع التي تشكلت فيها التنظيمات الأخرى.

لقد بقيت حركة «فتح» تحافظ على قدر كبير من الوحدة الداخلية، وبقيت تحاول ألا تحسب على أي نظام من الأنظمة العربية، لكن ومع ذلك فإنها لم تنج من الاختراق، ولقد تعرضت لانشقاقين رئيسيين الأول بقيادة صبري البنا (أبو نضال) وأطلق على نفسه اسم «حركة فتح ـ المجلس الثوري، وقد انطلق من الحاضنة العراقية في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي، والثاني أطلق على نفسه اسم «حركة فتح ـ الانتفاضة» وقد انطلق من الحاضنة السورية في عام 1983.

ثم هناك مشكلة أخرى بالنسبة لحركة «فتح» التي احتكرت السلطة الوطنية التي قامت على اساس اتفاقيات أوسلو الشهيرة في عام 1993، والتي لم تقبل إلا بمجرد مشاركة «ديكورية» من قبل بعض التنظيمات الهامشية الفلسطينية. وهذه المشكلة هي أن الوافدين من الخارج هم الذين هيمنوا على هذه السلطة وعلى أموالها وتجارتها ومراكزها، وان الشباب الذين قضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال، بينما زملاؤهم كانوا يتمتعون برغد العيش أولاً في بيروت ثم في تونس، بقوا باستثناء قلة قليلة يعيشون على الهامش ويشعرون بقسط وافر من الغبن والحرمان.

ولهذا فقد وجدت حركة «فتح» نفسها، بمجرد عودة جسمها العسكري والسياسي الرئيسي من المنافي امام معضلة : «الخارج والداخل»، ومعضلة «غزة والضفة الغربية»، ومعضلة «العشَّة والقصر»، ومعضلة تصادم العادات والمفاهيم والقيم بين الوافدين من دول ومجتمعات عربية متعددة، والمقيمين الذين تأثروا بمفاهيم وقيم وممارسات و«ديمقراطية» دولة إسرائيل التي بقيت تحتلهم، احتلالاً مباشراً تدخل في أصغر شؤون حياتهم اليومية، منذ يونيو (حزيران) عام 1967 وحتى اليوم.

هذه هي خلفية هذا الذي يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، فالصدام المحتدم الآن ليس سببه الفساد المستشري فقط ولا صراع الأجيال ولا التنافس بين الداخل والخارج، ولا قسوة الاحتلال وسطوته ودمويته، ولا الشعور بالاحباط بعد ان وصلت السلطة الوطنية الى نقطة لم تعد تقدر على تجاوزها، ولا التدخلات الخارجية، ولا الأخطاء القاتلة التي اقترفتها القيادة.. إن سبب هذا الصدام هو كل هذه الأمور معاً، وإنه صدام سيتعاظم وسيمتد ليشمل الضفة الغربية، وسيؤدي الى الفوضى العارمة، وربما الى الحرب الأهلية أيضاً إذا لم تبادر الدول المعنية الفاعلة الى حسم الأمور بسرعة.

غير مقبول ان يبقى العالم واقفا متفرجاً، وأن تكتفي الدول العربية المتأثرة بما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية بمراقبة الامور، بينما الوضع الفلسطيني ينـزلق نحو الفوضى، كما قال الدكتور صائب عريقات، والمطلوب ان يكون هناك تحرك سريع وجدي من قبل الولايات المتحدة التي تملك معظم أوراق المنطقة أولاً، ومن اللجنة الرباعية ثانياً، ومن العديد من الدول العربية ثالثاً. فالمسألة ليست مجرد شجار عابر بين مراكز القوى في حركة «فتح». الوضع أخطر من هذا بكثير. فإذا لم تكن هناك معالجة حازمة وحاسمة وسريعة، فإن الانهيار مقبل لا محالة، وعندها فإن ألسنة النيران لن تبقى محصورة في الاراضي الفلسطينية المحتلة.

لا بد من ان تمارس الولايات المتحدة ضغطاً على إسرائيل، فهي أساس كل هذا البلاء، وإلزامها بالقبول بقوات متعددة الجنسيات وبوصاية دولية على الضفة الغربية وقطاع غزة لضبط الامور، وإجراء انتخابات بدون أي تدخلات لا خارجية ولا جانبية لاختيار قيادة جديدة تتولى مسؤولية التفاوض مع الإسرائيليين وتتولى مسؤولية متابعة إقامة الدولة المستقلة.