تكهنات بورصة الترشيح للرئاسة الإيرانية

TT

حين انعقد في طهران الاسبوع الماضي المؤتمر السنوي السابع لحزب «جبهة المشاركة» الاسلامي، انفتحت مجددا أبواب «بورصة» الترشيحات لرئاسة الجمهورية، وهو المنصب الذي يفترض أن يخلو في بداية الصيف المقبل، مع انتهاء الولاية الثانية للرئيس محمد خاتمي، وبرز في الكواليس اسم المهندس مير حسين موسوي رئيس الوزراء الأسبق كمرشح يسعى الاصلاحيون الى طرح اسمه لخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة المحافظين، وتشير دلائل عدة الى انه ليس لديهم مرشح قوي حتى الآن، وليس من شك ان للمهندس موسوي رصيدا طيبا من الاحترام والثقة، يوفر له فرصة جيدة للفوز، خصوصا ان ذلك الرصيد جعله موضع اجماع من مختلف القوى السياسية في إيران، لكن الأمر ليس سهلا لا بالنسبة له، ولا بالنسبة لمرشد الثورة، السيد علي خامنئي.

فالمعروف ان الرجل اعتزل الحياة السياسية منذ تنحيه في الثمانينات، وعكف على ادارة مكتبه الهندسي، وممارسة هوايته في الرسم، ورغم انه عين عضوا بمجلس تشخيص المصلحة، إلا ان ذلك عد منصبا شرفيا وتكريما له، باعتباره من أبناء الجيل الأول للثورة الاسلامية، ومن التلاميذ الأوفياء للامام الخميني.

من ناحية ثانية، فإن دلائل عدة تشير الى ان علاقته الشخصية بالقائد لم تكن ناجحة منذ أن كان السيد خامنئي رئيسا للجمهورية وموسوي رئيسا للوزراء، إذ تباينت وجهات نظرهما في أمور عدة، وكانت علاقة الأخير بالامام الخميني عاملا مهما في حسم الأمور الخلافية لصالحه في أغلب الحالات، وهناك أقوال متواترة تحدثت عن أن الاصلاحيين فكروا في ترشيح السيد موسوي للرئاسة في عام 1997، ولكن القائد لم يبد ارتياحا لذلك حين عرض الأمر عليه، وعندئذ اتجهوا الى السيد محمد خاتمي الذي حقق فوزه الكاسح على المرشح المحافظ، الشيخ ناطق نوري.

ورغم أهمية هذه الخلفية، إلا ان هناك ملابسات أخرى في المشهد الإيراني تعزز فكرة استبعاد اسم موسوي من المرشحين للرئاسة، ليس وحده، وإنما تستبعد أيضا آخرين من المرشحين الأقوياء الآخرين وفي المقدمة منهم الشيخ هاشمي رفسنجاني والشيخ مهدي كروبي رئيس مجلس الشورى السابق والشيخ حسن روحاني الامين العام لمجلس الأمن القومي.

الملابسات التي أعنيها تتعلق بعوامل ثلاثة أحدها يخص السيد خامنئي شخصيا، والثاني يخص المحافظين بوجه عام، والثالث وثيق الصلة بالظرف التاريخي الراهن، والخرائط التي استجدت اقليميا.

فليس سرا ان السيد خامنئي لايريد أن يكتفي بدور المرشد والقائد، ولكنه يريد أن يحكم أيضا، وممارساته خلال السنوات الأخيرة أيدت هذه الفكرة، إذ كان تدخله كثيرا في الأمور التفصيلية التي كان بعضها من صميم اختصاص السلطة التنفيذية، ولولا حكمة الرئيس خاتمي وطول باله وحرصه المستمر على عدم التصعيد لانفجر الصدام بين القائد والرئيس في مناسبات عدة، كذلك ليس سرا أن بعض العناصر في داخل التيار الاصلاحي، وفي جبهة المشاركة ذاتها، انتقدوا السيد خاتمي في مرات عديدة لانه «صبر» كثيرا على تدخلات القائد، لهذا السبب فإن السيد خامنئي لن يقبل برئيس قوي يستقل برأيه وينازعه السلطة، وفي أوساط القائد يتحدثون الآن عن انه لم يعد هناك محل «للازدواجية» في القيادة، الأمر الذي يعني ان الرئيس المقبل ينبغي أن يكون على اتفاق تام مع المرشد، ملتزما برأيه ومطبقا سياسته.

فيما يتعلق بالمحافظين فان موقفهم واضح من الاصلاحيين، ذلك ان ممارساتهم تدل على انهم من الناحية العملية قرروا أن يطووا صفحة الاصلاحيين في السلطة أساسا، وفي الحياة العامة قدر الامكان (عن طريق اغلاق صحفهم مثلا)، وقد ظلوا يحاصرون الاصلاحيين ويضغطون عليهم بكل السبل طيلة السنوات السبع المنصرمة، مدفوعين في ذلك برغبة عارمة في شل حركتهم وقطع الطريق على تقدمهم، وقد حققوا في ذلك نجاحات مشهودة، كان لموقف المرشد المنحاز إليهم دور رئيسي في بلوغها، وبعد الانجاز الذي مكنهم من الحصول على أغلبية ساحقة في مجلس الشورى، ومن ثم بسط هيمنتهم على السلطة التشريعية، فانهم اعتبروا ان استئثارهم بمنصب رئيس الجمهورية هدف لايمكن التنازل عنه، لانه يكمل حلقات الهيمنة على سلطات الدولة، باعتبار انهم يسيطرون عمليا على السلطة القضائية، فضلا عن الحرس وأهم المؤسسات الاقتصادية.

في أجواء كهذه فإن معركة الفوز برئاسة الجمهورية ستكون فاصلة بالنسبة للمحافظين، وبالتالي فانهم سوف يستخدمون كل ما يملكون من قوة لحجب مرشحي الاصلاحيين الأقوياء (عن طريق مجلس صيانة الدستور مثلا)، كما انهم لن يقبلوا بتأييد أي مرشح ليس كامل الولاء لمعسكرهم، ورغم ان الشيخ هاشمي رفسنجاني له قدم في أوساط المحافظين وأخرى في محيط الاصلاحيين، إلا انه لهذا السبب لن يحظى بتأييد المحافظين، ناهيك من ان المرشد لن يتحمس لترشيحه، باعتباره رجلا قويا قادرا على ان يفرض نفسه على الآخرين، ولن يمكن المرشد من أن «يتمدد» داخل السلطة التنفيذية.

من جهة ثالثة فإن الظرف الاقليمي يهيئ مناخا مواتيا للمحافظين وليس الاصلاحيين بوجه أخص، فإن الاحتلال الاميركي للعراق، والتهديدات التي تلوح بها واشنطن بين الحين والآخر موجهة الى طهران، مرة بسبب الملف النووي، ومرة بسبب ما يقال عن التدخل الايراني في العراق، ومرة ثالثة بما يشاع عن مرور بعض عناصر «القاعدة»، التي اسهمت في أحداث 11 سبتمبر بالأراضي الايرانية، هذه التهديدات تشكل مزاجا ايرانيا ينحاز الى المحافظين الذين يرفعون راية الاحتماء بثوابت الثورة والتمسك بالأصول والجذور واعتبار الولايات المتحدة، التي اصبحت تقف الآن على أبواب إيران سواء من ناحية افغانستان، أو من الجانب العراقي، «شيطانا أكبر»، يهدد بالاجتياح السياسي والحضاري، وفي مناخ من هذا القبيل فإن خطاب الاصلاحيين الليبرالي والانفتاحي والداعي الى مد الجسور مع الغرب، لا يجد حماسا كافيا، علما أن مديح الادارة الاميركية للاصلاحيين أضر بهم كثيرا في الانتخابات النيابية السابقة، من حيث انه وضعهم في موضع شبهة كانوا في غنى عنها، خصوصا ان واشنطن كانت تستعد آنذاك لغزو العراق.

اذا صحت هذه التقديرات، وازعم انها صحيحة، فاننا نخلص منها الى نتيجتين، الأولى ان فرص موسوي ورفسنجاني وروحاني في الترشيح لرئاسة الجمهورية مستبعدة، والثانية ان منصب الرئيس سيظل محجوزا للمحافظين، ما لم تحدث مفاجأة غير متوقعة.

وفي كواليس طهران هناك من يقول ان المرشد لا يريد محافظا قويا، ولكنه يريد رئيسا طيعا ومرنا للغاية كما سبقت الاشارة، وقد سمعت أحد العارفين وثيقي الصلة بتلك الكواليس يقول ان ايران مقبلة على «عصر المقلدين وليس المجتهدين»، وهو ما يفهم منه ان مواقع الصدارة في السلطات الايرانية ستكون من نصيب قيادات الفرز الثاني أو الأول، اذا صح التعبير، وهم يستندون في ذلك الى حرص القائد على أن يحيط نفسه برموز من هذا الطراز، ويعززون وجهة نظرهم بما حدث في مجلس الشورى، الذي انتخب له رئيس تنطبق عليه هذه المواصفات، هو الدكتور حداد عادل الذي تربطه علاقة مصاهرة مع السيد خامنئي (ابن القائد مجتبي متزوج من ابنة الدكتور حداد)، ويقولون ان أحدا لم يكن يتوقع ان يحتل قيادي بهذا الحجم ذات المقعد الذي شغله ثلاثة من أركان الثورة الاسلامية، الشيخ رفسنجاني، ثم الشيخان ناطق نوري ومهدي كروبي.

يهمس البعض في هذا السياق بأن المحافظين قد يرشحون الدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق لمنصب الرئيس المقبل، لكن هناك من يذهب الى أن المواصفات التي تناسب القائد وتريحه تنطبق بدرجة أكبر على رئيس بلدية طهران احمد نجاد، وهو أحد الشخصيات المحافظة المغمورة، التي برزت في أوساط «المقلدين» الذين يريدهم القائد، ويشير إليه البعض هناك باعتباره «رجائي الثاني»، إذ يشبهون صلته بالسيد خامنئي بالعلاقة التي ربطت الشهيد محمد علي رجائي ـ الذي كان مدرسا مغمورا ـ مع الامام الخميني، وكانت سببا في دفعه الى الصف الأول وتوليه رئاسة الجمهورية في أوائل الثمانينات.

هذه مجرد تقديرات وتكهنات قد تبدو راجحة الآن، لكننا تعلمنا انه ليس في السياسة آخر كلام، وان ما هو راجح الآن قد يكون مرجوحا غدا.. والله أعلم.