غموض العلمانية: أهو حيلة مدبرة.. أم صراع جاهل؟

TT

عندما فندت لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر (ايلول) في تقريرها النهائي الذي صدر بتاريخ 22 من الشهر الجاري، المزاعم التي ادعت أن السعودية قدمت دعماً لمنفذيها، وانتهت بإقرارها الذي ينفي صلة المملكة بالهجمات، أوصت بضرورة حل المشاكل مع السعودية بانفتاح أكبر على قاعدة علاقات إنسانية لا تحكمها مصالح النفط، حتى يتمكن الشعبان من التعامل بتصالح يستبصر متطلبات الحاضر المضطرب، وهو خبر عن تقرير أعقبه حوار شخصي تحدثت فيه مع أحدهم عن ضرورة الانتقاء المحسوب لخطوات المراحل القادمة للأمة الإسلامية، وإذا بمحدثي يلقي عليّ بجملة حفزتني للكتابة حول موضوع اليوم، وأنا التي كنت أرجئ الخوض فيه لحساسيته المعروفة بالنسبة للحالة الذهنية الإسلامية. إنها عبارة لم تخرج في كلماتها عن: «ليدعونا هم وعلمانيتهم في حالنا»، ولكنها تحمل معها هذا «الغبش» الكثيف حول مفهوم «العلمانية»، شأنها في ذلك شأن بقية المصطلحات التائهة في عُرف قاموسنا المعرفي.

فعندما استقبل العالم الإسلامي «العلمانية»، منهم من تعامل معها، ومنهم من اعتبرها مجرد إضافات مفضلاً عليها «الديمقراطية»، ومنهم من رفضها رفضاً تاماً.

فلنا أن نلاحظ كيف لم تواجه الديمقراطية بردود فعل مصحوبة بحيرة وتشكيك بقدر ما كان من نصيب العلمانية، ذلك أن الشورى هي بديل الديمقراطية باللغة الإسلامية، أمّا العلمانية فقد تُلقفت منذ البداية على أنها ضد الدين، فهل هي كذلك!

لنحاول أن نتعرف على منهجها قبل أن نصدر أحكاماً سمعنا غيرنا قال بها، فالمهم دائماً ما نقوله نحن، والذي لن يكون إلاّ بعد اطلاعنا، فاقتناعنا، دون أن نتخلى عن موضوعيتنا.

لقد تحدث الناس عن العلمانية فأطالوا ، وإن كانوا لم يصلوا بعد إلى تصور موحد، فطريق العلمانية أخذ منحيين: العلمانية كبديل غربي، والحاكمية كرد فعل شرقي، مع أن العلمانية ضد حكم الدين الكهنوتي، فما معنى هذا!

بتفصيل أوفى، علينا أن نعي أن العلمانية كلمة مشتقة من فعل «غير مقدس» باللغة الإنجليزية أي غير الثابت، وبالتالي فهي تُعنى بمقاومة الفكر الذي يتخذ صفة القداسة، لأن ظهورها ـ في بداية عصر النهضة الأوروبية ـ قد ارتبط بتجمد القوالب الفقهية عند الكنيسة الأوروبية عندما اتخذت لنفسها صفة القدسية، وفي هذا يؤكد الباحث الاجتماعي الأمريكي «هوارد بيكر» أن كلمتي مقدس وعلماني: «لا تعنيان معنى دين كما تشير إليها كلمة مقدس، ولا معنى غير دين كما تشير إليها كلمة علمانية، فكلمة مقدس تستخدم بمعنى أوسع فتعني كل ما هو محمي من التغيير والتبديل. ولهذا فإن الأمور الدينية وغير الدينية مثل العادات والأفكار قد تعتبر هي أيضاً مقدسة... والمقارنة بين المقدس والعلماني لا تماثل المقارنة بين المتعلم و الأمّي لكنها تستخدم كوصف لخصائص مجتمعات مختلفة، وعليه فالمجتمعات المدنية ـ مثلاً ـ قد تكون مقدّسة أو علمانية».

وللمزيد من الإيضاح حول فهم العلاقة بين العلمانية والدين ينبغي أن نفرق بين النبي عيسى عليه السلام، وبين الكنيسة تفريقاً فاصلاً، فالعلمانية قد قاومت الكنيسة ومجتمعها الكهنوتي الذي جعل من رجاله واسطة بين الخلق والخالق، ولم تقاوم النبي عيسى عليه السلام أو دينه، وعلى هذا الأساس كانت تنادي بالتنحية الصارمة لهيمنة رجال الدين البابوية على دين السيد المسيح الذي فصل الدين عن الدولة في مقولته الشهيرة «ما لله لله، وما لقيصر لقيصر».

فالمسيحية لا تملك شريعة خاصة بها، ولأنها كذلك فقد كانت تتعامل بالتشريعات «اليهودية» و«الرومانية»، مما جعل القيصر «أوغسطين» يستأثر وقتها بما لقيصر وما لله معاً، فلم تأت الكنيسة لتصحح هذا الاعتداء الصارخ وإنما زادت فباشرت بابويتها ـ أي كهنويتها ـ للقضايا السياسية والتشريعية، فجاءت العلمانية الانجليزية كحركة تصحيحية لتهذيب ما طرأ على الدين المسيحي ولفصله عن سيطرة الكنيسة عليه، في اختلاف مع العلمانية الأوروبية في موقفها من الدين! ففي الوقت الذي فصل فيه الأوروبيون الدين عن الدولة فصلاً نهائياً، جمع ملك بريطانيا بين رئاسة الدولة والكنيسة رمزاً للوحدة المعنوية بينهما.

فهل فُهمت العلمانية الانجليزية خارج أسوارها في حدود إطارها المعقول!

تطالعنا قراءة الماضي والحاضر بأنها أبداً لم تُستوعب في بلاد كمصر والهند لارتباطها بالاستعمار الذي لعب دوراً كبيراً في النفور منها، وهو ما اختلف أمره مع العلمانية الأوروبية التي استقبلتها بعض الدول العربية، ولكن لعدم فهم التمايز الفكري الموجود بين الانجليز والأوروبيين جُمع بين الاثنتين وكأنهما علمانية ذات آلية واحدة.

فإذا كانت هذه هي حقيقة العلمانية، فإن ديننا الحنيف كما يقول الدكتور محمد عمارة: «لا يعرف «الدولة الدينية» ولا «المجتمع المقدس» لأنه لا يعرف ما يُسمى برجال الدين، بل ينكر الوساطة بين الإنسان وربه، ويرفض الكهانة والكهنوت»، فللإسلام ثوابت لا يمكن القبول بتغييرها، كما أنها ليست منغلقة على فترة أو مكان بعينهما، ومن ثم فالمجتمع الذي ينادي به الإسلام لا يتعارض مع التغيير، ومن المعروف جيداً بأن الإسلام الصحيح لم يعرف أرثوذكسية حقوقية شرعية، ولا بابوية متحكمة، وبهذا المعنى تسقط الحاجة إلى وجود نواب عن الله، لأن ديننا وببساطة يتعامل مع الأفراد مباشرة ـ على عكس الكنيسة ـ لا بواسطة أحد من الخلق مهما كانت رتبته، وكما أن الإسلام ليس فيه رموز وتعقيدات تحتاج إلى كهنة يحلون طلاسمها، فيكون كل مسلم هو رجل دين، وكل مسلم هو خليفة الله على الأرض، ولو كان الإسلام يقر بتلك البابوية لكان أولى من يتولاها العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء، أما وقد عرفنا ذلك فلا نملك إلا أن نقول أن «الهيمنة المتأسلمة» إنما هي سياسية لا علاقة لها بالإسلام، فإذا أرادت مجتمعاتنا أن تتطور فهي لا تحتاج للعلمانية ومؤسساتها لأنها لم تشهد الثنائية التي ابتليت بها أوروبا الكاثوليكية حين نشأت بسببها العلمانية، وإن كانت في أمس الحاجة إلى استعداد مجتمعي قادر على تبني التقدم بفقه غير منطفئ وعقل غير متحيز.

وفي قوله تعالى: «...ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضَاً أرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ...» تنوير ما بعده دليل على أن الإسلام ضد الكهنوتية، فهو الدين الذي لم يعرف كتابات دينية لاهوتية بالمعنى الحرفي للكلمة في أوروبا، فإذن هو في غنى عن التعريف بتناقضه مع هذه القضية، وإذا ظن المتطرفون أنهم بتنظيرهم الترهيبي يكونون قد حموا الدين، فالإسلام من القوة والمنعة والوضوح بدرجة لا يحتاج معها لهذا الأسلوب الخطابي التشويهي، إنما عليهم بأنفسهم التي لم يفعلوا لها شيئا ، بعجزهم عن التفاعل مع المتغيرات بشكل حضاري ديمقراطي، سوى أن يرتموا في أحضان الدكتاتورية بالغة السوء المنتشرة في معظم بلاد العالم العربي، أو يتأرجحوا بين الديمقراطية والدكتاتورية كما في تركيا، أو يتأزموا في انغلاقهم الظلامي في كهوف تورا بورا.

فمجمل الصيحات الهستيرية لا تخرج عن الهجوم بأن ما جاءنا وما استجد بنا سيفصلنا عن ديننا، فالعرب، على ما يبدو، مولعون باستيراد المصطلحات، ثم بالتهويل منها، وجعلها مسرحاً لكل انحراف متطرف، وكما أكرر دائماً، ان كان قدرنا أن نعيش وسط «كرنفال» من الأيديولوجيات فعلينا أن نمتلك عقلية واعية بتثقيف لا يتجاهل تبسيط المصطلحات بصياغة تأخذ في اعتبارها أبجديات الموضوع من أوله، حتى لا نضع المصلين في اتجاه قبلة أخرى، وسواء أكان بعلمهم أو بجهل تام منهم فالنتيجة انشطار الطاقة الإنسانية إلى اتجاهين متعاكسين: اتجاه السماء واتجاه الأرض، فيضيع المرء ويظل يعاني من ارتجاج فكري وديني لا يعالجه إلا إزالة حاجز الخوف بـ«المعرفة الصحيحة» التي يتقرر على ضوئها قبولنا أو رفضنا، والذي لن يكون إلا على أسس تسمي الأشياء بأسمائها، فتزيل ما علق بها من غموض، فلا تحجب عنا الرؤيا، ولا نكون لقمة سريعة الهضم لكل عبث مسيس وجعجعة مخدرة.