دارفور: امتداد للأزمة العامة.. وليست مجرد صراع قبلي

TT

مخطئ من يحصر الصراع في إقليم دارفور في طابعه القبلي التقليدي، ومخطئ من ينفي هذا الطابع. مخطئ من يؤرخ لبدايات الأزمة باستيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة، ومخطئ من يتجاهل دور سياسات وتجاوزات هذه الحكومة في تفاقم النزاع وتحويله إلى مأساة إنسانية دموية أقامت العالم ولم تقعده بعد. إن الصراعات القبلية في السودان تجاوزت طابعها التقليدي، وتحولت من مجرد تنازع على الموارد الطبيعية المتدهورة ، إلى تطلع مشروع نحو مشاركة حقيقية في السلطة وفي صنع القرار السياسي والإداري، ونحو اقتسام عادل للثروة خاصة أن هذه القبائل تقطن في مراكز انتاج هذه الثروة. هذا هو حال الأزمة في دارفور، حيث رغم الخصوصية والحيز الجغرافي ، هي امتداد للأزمة الوطنية العامة الممتدة منذ فجر الاستقلال، والتي تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة علي أيدي القوى الاجتماعية التي شكلت الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم طيلة العقود الماضية. لكن سياسات وتجاوزات حكومة الإنقاذ فاقمت الأزمة وحولتها إلى مأساة إنسانية دولية!

النزاع القبلي في دارفور قديم، لكن قبائل دارفور لم يكن ينقصها الوعي والحكمة في التصدي لحل هذه النزاعات. فخلال الفترة من1957 وحتى اليوم عُقد أكثر من عشرين مؤتمرا للصلح القبلي في دارفور. وقد لخصت تلك المؤتمرات مفردات المشاكل في: احترام الحق التاريخي للقبائل على حواكيرها، الاتفاق على تحديد مسار مرحال غربي (غرب جبل مرة) وآخر شرقي، مع تحديد دقيق وقاطع للمعالم الطبيعية الثابتة لكل المراحل والمواقيت الزمنية، التقيد بالأعراف التي تواضعت عليها القبائل لفض نزاعاتها والأعراف القبلية في الاستضافة أو الاستجارة لقبيلة أو عشيرة أخرى، مخاطر إنشاء كيانات إدارية جديدة دون مراعاة النزاع على ملكية الأرض، مخاطر شطر وتجزئة إدارات أهلية معارضة للسلطة المركزية وفرض إدارات أهلية موالية، مخاطر عدم مراعاة الأعراف القبلية في الالتزام بسداد الديات والتعويضات، مخاطر التمييز بين القبائل في جمع السلاح أو توزيعه، مخاطر انتشار الجماعات المسلحة التي تمتلك أسلحة متفوقة على أسلحة القوات النظامية ، وأن أفرادا من القوات النظامية يشاركون قبائلهم في القتال القبلي ورسم الخطط العسكرية، مخاطر انتشار الأسلحة التي يعود بها مَنْ تسميهم حكومة الإنقاذ بـ«المجاهدين» من القتال في الجنوب كغنيمة أو فيئ، واستخدامها في الصراعات القبلية، مخاطر البيعة للإنقاذ باسم القبيلة، ضعف نفوذ الإدارة الأهلية أمام نفوذ الروابط القبلية وقياداتها من المتعلمين والمثقفين، وعجزها لدرجة الشلل والخوف من احتواء النزاع المسلح، استغلال بعض المثقفين الانتماء القبلي لتحقيق تطلعاتهم لمناصب السلطة، صراعات دول الجوار وتداخل القبائل وتدفق السلاح، والاستقواء بقبائل دول الجوار والتساهل في منح الجنسية السودانية....الخ.

المشاركون في هذه المؤتمرات دائما يتوصلون إلى توصيات سليمة، لكن تظل هذه التوصيات مجرد حبر على ورق دون تنفيذ !! وكالعادة تحولت المؤتمرات في ظل سلطة الإنقاذ إلى بهرجة سياسية إعلامية . ولو نفذت السلطة جزءا من توصيات تلك المؤتمرات لما تدهور الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي في دارفور إلى هذه الدرجة. ولكن نظام الإنقاذ غير معني بمعاناة أهل دارفور، بل ازداد الوضع سوءا نتيجة لممارسات حكام وولاة الإنقاذ الذين أرادوا استثمار الاختلافات التاريخية القبلية لتحقيق مكاسب سياسية لمصلحة الحزب الحاكم، فيكافئون القبائل الموالية بمنحها نظارة أو محافظة في مناطق إدارية وحواكير لقبائل أخرى...إلخ، والنتيجة الآن أن المنطقة تشهد حربا أهلية حقيقية ترفع شعارات المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمثلت في خلو المنطقة من مشاريع التنمية وضعف خدمات التعليم والصحة، وابعاد أبناء دارفور من مواقع المسؤولية حتى في عقر دارهم، ومؤخرا انتهاج سياسة التطهير العرقي عبر عصابات الجنجويد وبتوجيه مباشر من أركان النظام. صحيح أن قضية التنمية تشكل عصب الحل لتظلمات أهل الإقليم، لكن يصعب إلهاء أو خداع أهل دارفور بشعارات وبرامج التنمية كمشروع مستقبلي، وهم يعيشون خذلان الماضي وانهيار الحاضر، سواء في المصير المجهول للأموال التي اقتطعوها من لحمهم الحي لتمويل طريق الإنقاذ الغربي، أو انهيار مشروع جبل مرة، أو اختفاء مشاريع السافانا وأم عجاج وخور رملة وساق النعام، أو توقف مدبغة نيالا، أو تراجع الاهتمام السنوي والموسمي بضبط مياه الخيران كتجربة ناجحة طورتها مساعدات ولاية سكسونيا الألمانية، أو توقف حملات العيادات البشرية والبيطرية المتحركة، أو مشروع تحسين الماشية وتسويق الألبان، أو تعطل المدارس والمستشفيات بسبب تأخير صرف المرتبات....الخ.

لم تبخل قبائل دارفور التي لها حقوق تاريخية على الحواكير، بأية مساحة من حواكيرها تدخل ضمن مشاريع التنمية ذات العائد لمصلحة كل سكان الإقليم رعاة ومزارعين. ورغم قسوة الظروف الطبيعية مازالت دارفور رحبة تسع إنسانها وحيوانها. وظلت قضية التنمية في دارفور ذات أسبقية ضاغطة منذ ثورة اكتوبر 1964، وتراكمت دراسات جدوى وملفات مشاريع رائدة لا تحصى. لكن الحلقة المفقودة كانت وما تزال الإرادة السياسية لاتخاذ القرار، وتعبئة الموارد البشرية والمادية للتنفيذ، ولو في حيز إعادة إعمار المشاريع التي كانت قائمة، وتلك التي جادت بها المنظمات الدولية. وهذا ما فشلت فيه تماما حكومة الجبهة الاسلامية، التي جادت بسخاء على المحاسيب بالمراعي التجارية الشاسعة (مساحة 300 ألف - 600 ألف فدان)، دون مراعاة للغطاء النباتي وغابات الهشاب والطلح (مصدر الصمغ العربي) وإسقاط حق صغار المزارعين والرعاة والمنتجين في المشاركة في الحيازة وعائد الإنتاج. وأخيراً الآثار السالبة المتوقعة للاتفاقية الحصرية واستنزاف الثروة الحيوانية التي يزخر بها إقليم دارفور.

ثم هنالك الحدود الشاسعة والمفتوحة على ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، إضافة إلى التداخل القبلي عبر تلك الحدود، مما جعل دارفور تتأثر بشكل مباشر بالصراعات الدائرة والمتجددة في تلك المنطقة، وتتحمل عبء تقلبات السياسة الخارجية للحكومة المركزية.

إن المدخل السليم لحل أزمة دارفور هو الاعتراف بأن ما يحدث في دارفور هو إفراز حقيقي للأزمة العامة التي يعيشها السودان، والتي من أبرز تجلياتها التهميش المتواصل لأطراف البلاد ومن ضمنها دارفور، وأن المشكلة سياسية تتطلب حلاً سياسياً قومياًً. لكن الوضع المأساوي المتفجر الآن في الإقليم يفترض تنفيذ تدابير عاجلة وفورية منها:

تصفية ميلشيات الجنجويد وتقديم قادتها للمحاكمة، وكذلك التحقيق فى جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وتحديد المسؤولية وتقديم مرتكبيها للمحاكم.

حظر الطيران الحربي في دارفور ومراقبة كل وسائل النقل البري والمنافذ لمنع دخول السلاح.

العمل على عودة النازحين داخل وخارج البلاد إلى ديارهم الأصلية وحمايتهم وتعويضهم عما لحق بهم من أضرار، وتوفير وتوصيل الإغاثة من غذاء ودواء...الخ إليهم عبر ممرات آمنة وبمساعدة المجتمع الدولي.

ومن الواضح أن حكومة الخرطوم لن تنصاع لتنفيذ هذه التدابير إلا بضغط مباشر من المجتمع الدولي والإقليمي عبر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وغيرها من المنظمات.

ويأتي ، بعد تنفيذ هذه التدابير العاجلة ، دور التصدي لجذور المشكلة ومسبباتها وتقديم الحلول الناجعة لها. وهذا لا يتأتى إلا عبر مؤتمر سياسي جامع يسع كل القوى السياسية في البلاد، بما في ذلك القوى المعارضة المسلحة في دارفور، ويمثل فيه أهالي دارفور بمختلف قطاعاتهم، مستصحبا كل مبادراتهم لحل النزاع في الإقليم. لكن نجاح مثل هذا المؤتمر يتطلب مناخا تسوده الحرية والديمقراطية، ومن هنا ضرورة إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وكافة القوانين الاستثنائية التي تحول دون إبداء المؤتمرين لآرائهم دون خوف أو وجل.

لكن الحل النهائي للمشكلة لا يكمن أن يتأتى إلا في إطار التصدي للأزمة العامة في البلاد عبر الاتفاق على مشروع وطني قومي ، للخروج بالبلاد من أزمتها، مشروع يراعي التعدد الإثني والتفاوت التنموي في مختلف ربوع البلاد، ويتصدى، عبر الديمقراطية ومشاركة الجميع، لقضايا التنمية المتوازنة والمشاركة العادلة في السلطة وموارد الثروة بحيث نحتفظ بالسودان موحدا وآمنا لكل سكانه. هذا وحده هو الذي يحول دون تدويل الوضع في دارفور، وهذا وحده هو الذي يجعل الحل السياسي الديمقراطي الشامل لأزمة الوطن سودانياً قولاً وفعلاً.

* عضو هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي