الكويت والعراق.. هواجس الماضي وأسئلة المستقبل

TT

ينظر الكويتيون بقلق إلى الوضع الأمني في العراق، ولكن ذلك لم يزعزع قناعتهم بقدرة السلطات العراقية على ضبط الوضع في نهاية الأمر، وجعل الجماعات الارهابية في موقع الدفاع، وبالتالي الاضمحلال، كلما استطاعت هذه السلطات أن تثبت أن انتقال السيادة من قوات التحالف اليها قد تحقق فعلا لا قولاً.

وهذا الوضع يعني، بكل بساطة، ان التحدي الأمني سيظل في أولوية الاولويات بالنسبة الى الدولة العراقية الجديدة مع انه متزامن، في رأيي الشخصي، مع تحدٍ آخر، هو بلورة آلية القرار السياسي الداخلي بشكل واضح يطمئن كل فئات المجتمع العراقي من عرب واكراد وتركمان وشيعة وسنة ومسيحيين، لأنك لا تستطيع ان تبني قــوى أمنية فاعلة دون مشروع سياسي واضح.. ولنـا في تجربة بناء العراق الحديث في مطلع العشرينات خير دليـل على ذلك، وان كانت هذه العملية لم تستكمل إلا بعد ثورة شاملة واضطرابات واسعة، رغم انها سقطت مجددا في عـام 1958، لأسباب لا مجال لذكرها الآن، وان كانت هناك ضرورة لمنع نشوء أسباب مشابهة تؤدي الى انتكاسة مماثلة، دفع ثمنها الشعب العراقي غالياً، خصوصاً في العقـود السوداء الثلاثـة الماضية التي حـكم فيهـا صدام حسـين.

لا شك في ان الكويت معنية أكثر من غيرها بتحقيق المزيد من الايجابيات الأمنية والسياسية في العراق وتكريس الاستقرار فيه، ربما أكثر من كل دول الجوار العراقي، لأن لا غايات لها في لعبة الاستقطابات والتجاذبات الاقليمية الجارية حالياً والتي تقوم على حساب عودة العراق الى لعب دوره في المنطقة، وتأثيرات ذلك على كل دولة من هذه الدول وعلى موازين القوى في المنطقة عموماً.

ولا تستطيع دول الجوار العراقي ان تتنصل من مسؤولياتها تجاه العراق، خصوصا على الصعيد الامني، لأن التدهور الذي يشهده البلد الشقيق بات يحمل نذير خطر لكل المنطقة، ويمكن ان يرتد على كل دول الجوار، بحيث تستطيع كل معارضة في كل بلد مجاور ان تستخدم الاراضي العراقية نقطة انطلاق لعمليات ضد انظمتها.

ان أي عاقل يدرك ان استشراء الارهاب في العراق او انتصاره في هذا البلد، يعني اغراق الجوار، ثم المنطقة كلها، في معمعة الفوضى الشاملة لأن آمال من يفجرون ويقتلون اليوم باعادة النظام السابق قد سقطت دون رجعة، ولا نعرف حتى الآن أي سبب سياسي واضح لاستمرار «المقاومة»، التي تفتقد اي برنامج سياسي الا خدمة لغايات لا علاقة للعراق بها.

ان انتقال السيادة الى الدولة العراقية يفتح الباب واسعا امام التراجع عن بعض الرهانات والسياسات التي تريد تحويل العراق الى ساحة تصفية حسابات سياسية، وهناك مؤشرات ايجابية على ذلك في المدة الاخيرة، لان هذه السياسات والرهانات دون افق حقيقي، غير انها ذات حدين، ويمكن ان ترتد على الجميع، وفي المقدمة اصحابها.

فاذا استثنينا تنظيم «القاعدة» الذي تقوم سياسته على القتل من اجل القتل والفوضى من اجل الفوضى لتبرير استمراره، ولا مصلحة لأحد بدفع الامور الى مواجهة شاملة لان واشنطن تدرك ان تراجعها في العراق يعني تراجعها في كل المنطقة، ان لم يكن خروجها منها، وهو ما لن تسمح به، وهو ما ستكون له تداعيات خطرة على الجميع.

لقد حصدت الكويت ايجابيات سقوط الدكتاتورية في العراق على كل المستويات، وتلقت اشارات ايجابية كثيرة من المسؤولين في بغداد، لكن ذلك لم يسقط كل سلبيات الماضي على صعيد العلاقات الثنائية وأبرزها مظاهر اللاثقة في العلاقات التي ولّدتها سياسات صدام حسين العدوانية.

وتكمن المشكلة اليوم في تفاوت فهم هذه العلاقات بين البلدين. فالكويت تعتبر أن كل قضاياها الخلافية مع العراق، من ترسيم الحدود الى ضمان السيادة والاستقلال وعدم التدخل في شؤون الآخر، قد وجدت حلولا نهائية في القرارات الدولية فيما يبدي بعض المسؤولين العراقيين ـ وعن حسن نية ـ استعدادهم لتقديم ضمانات في كل مجالات الخلاف السابقة، وهو ما يعتبره الكويتيون عودة الى الوراء وفتحاً لملفات يفترض انها اغلقت بصورة لا عودة عنها.

وفي المقابل هناك قناعة متزايدة في الكويت، ودول مجلس التعاون عموماً، بتخطي الموضوع السياسي ـ الأمني إلى بناء شراكة اقتصادية حقيقية مع العراق الجديد إنطلاقاً من تجارب تاريخية عديدة أكدت أن قيام شبكة علاقات اقتصادية واسعة هو الضمان الحقيقي والمثمر للسلام، ولنا في تجربة أوروبا التي خاضت حربين عالميتين خلال نصف قرن سقط فيها مائة مليون إنسان خير دليل على ما نقول.

وقد بدأت الكويت فعلاً في السير لهذا الخيار، وهي تقوم ببناء مرفأ ضخم في جزيرة بوبيان لتسهيل التجارة مع العراق، بالإضافة الى شبكة لسكك الحديد، كما وضعت كل الشركات الكويتية امكاناتها في خدمة عملية إعادة إعمار العراق وهذا الأمر يفتح باباً واسعاً لقيام مشاريع اقتصادية مشتركة تخلق بدورها مصالح مشتركة تشكل أساساً راسخاً لقيام علاقات كويتية ـ عراقية، واستقرارا خليجيا، مفيدة للجميع.

كما يمكن للكويت أن تقوم باستثمارات مشتركة مع العراق في مجالات يعطيها المسؤولون في بغداد أولوية نظراً لإلحاحيتها للاقتصاد العراقي او للخدمات المقدمة إلى المواطن العراقي، مثل الاتصالات التي يعاني العراق تخلفا شديدا فيها ويمكن أن يشعر المواطن بفوائدها على كل المستويات، أو البيئة مثل إعادة الأهوار في الجنوب إلى ما كانت عليه وهو ما يؤمن استعادة التوازن البيئي في مياه شمال الخليج كلها والتي تعرضت لضرر شديد، خصوصا على صعيد الثروات السمكية، نتيجة إقدام صدام على تجفيف الأهوار وتدميرها.

وتتمة لهذا المشروع يمكن أن يقوم البلدان بتنظيف شط العرب وتعميقه، وتستطيع الكويت ان تقوم بدور نشط على هذا الصعيد لتحقيق فائدة مشتركة، فيعود هذا الشط ممراً مائياً صالحاً للملاحة بالنسبة للعراق، ومصدراً مائياً تسحب منه الكويت للزراعة وفق أثمان متفق عليها.

كما يمكن ان تقام على جانبي الحدود سلسلة من المناطق الحرة للتكنولوجيا والصناعة والتجارة، تؤمن وظائف كثيرة لليد العاملة في البلدين وتساهم في نقل التقنيات الحديثة، وهي بأمس الحاجة لتنمية من نوع حديث.

أما الاستثمار الأهم على الحدود المشتركة فيبقى على الصعيد النفطي، في وقت تستعد فيه الكويت لتطوير مناطق الشمال النفطية، ويعيد فيه العراق تأهيل آباره الجنوبية، وهنا يمكن ان تقام شبكة هائلة من المصالح المشتركة والصناعات البتروكيماوية والغاز والمعادن، ويبقى المطلوب في كل الحالات عقلية جديدة في التعاطي مع الامور، تضع الحساسيات جانباً لصالح فهم جديد للمصالح المشتركة.

لذا تشكل زيارة رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي المرتقبة للكويت مناسبة لتكريس الأسس الجديدة للعلاقات الثنائية، كما وردت في القرارات الدولية، وبالتالي إقامة إجراءات جديدة للثقة بين البلدين وبناء ارادة سياسية مشتركة من أجل قيام علاقات ثنائية جديدة وبناءة لمصلحة الشعبين.

* رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الامة الكويتي