وقفة مع الذات.. ونظرة للوراء لالتقاط الانفاس

TT

عندما شاهدت البسمة العريضة على وجه أرئيل شارون، وهو يبعد عني خطوة أو خطوتين في مبنى الكنيست، وهو يتحدث عن احداث غزة، غضبت قليلا.. وحزنت أكثر. فقد استشطت غضباً على أولئك الذين قدموا إلى شارون هذه « الهدية « التي ملأته سروراً وحبوراً حتى قال « ألم أقل لكم... لا يوجد احد نتفاوض معه». أرئيل شارون الذي حطم جيش احتلاله كل مؤسسات السلطة الفلسطينية وأجهزتها وبنيتها التحتية، يبتسم بغياب الأمن والأمان والنظام في غزة ثم الضفة الغربية ويقول بقلبه لهؤلاء الذين أحرقوا وحطموا: شكراً !

بادئ ذي بدء أقول: التظاهر مسموح بل إنه أحياناً مطلوب. ولكن ما حصل من عمليات اختطاف وحرق مكاتب ومراكز شرطة وأمن، لم يكن تظاهراً شرعياً، وانما كان تعبيراً عن حالة من الفلتان وحكم المليشيات المسلحة.. فبعض المناطق في غزة والضفة الغربية بحاراتها وشوارعها وبلدتها ومدنها، أصبحت تحت «سيطرة» ميليشيا يقودها «أمير»، يخضع له عشرات المسلحين، تحولوا إلى عنوان قصري حتى للقضايا المدنية والجنائية.

يقولون لي إن نابلس «محكومة» من قبل مجموعات (ميليشيات)، وان إشهار السلاح في الشارع أصبح «عادي».. أصبحت نابلس تعيش حالتين: الأولى هي الصمود الأسطوري والبطولي ضد أبشع أنواع القمع والقتل ألاحتلالي. والثانية تلك الحالة من الفلتان و«الزعرنة» في شوارع هذه المدينة المنكوبة كما هي الحال في شوارع عدد من المدن الأخرى.

هذا هو الوضع الذي حلم به الاحتلال.. وأراده شارون: انحلال... فلتان وانعدام سيطرة مركزية بعد تحطيم إسرائيل للأجهزة الأمنية الفلسطينية ولكل مظاهر القوة والهيبة السيادية لدى هذه السلطة.

لا يمكن لمظاهر الفساد وعناوينه ان يبقوا خارج المساءلة والقانون.. وعلى أجهزة السلطة، أو ما تبقى منها، أن تظهر للمواطن الفلسطيني رغبتها وقدرتها على اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق هؤلاء تحت عنوان «من أين لك هذا!».

ولكن تحت هذا الغطاء لا يمكن أن يسمح ويجب ألا نسمح لتلك الحالات الجنائية أو الفلتانية والانحلالية أن تسود وتحطم ما تبقى، محطمة شعور المواطن بالأمن الشخصي الذي استهدفه أصلاً جيش الاحتلال، فأصبح يخاف في بعض ألاماكن أكثر من حملة المسدسات العشوائية والحالات التي تروى تثير القشعريرة في جسد كل من يحب هذا البلد والوطن.

إن هذه الحالة هي التي خلقت تلك الثغرة التي أمكن من خلالها إطلاق نار غادرة على الأخ نبيل عمرو لإسكاته. وبامكان أي طرف أو شخص أن يوافق أو يختلف مع نبيل عمرو، ولكن محاولة اغتياله للتخلص مما يقول، أو لخلق حالة من رد الفعل والتقاتل الدموي الداخلي، هي الأخطر على هذا الجسد الذي تقطعت أشلاؤه إرباً من قبل احتلال باطش. فلماذا إذن هذا التطوع للموت الذاتي؟ لماذا هذا التآكل؟ أم أن هناك وفرةً من الدم الذي لا محالة يجب أن يهدر؟

سلاح الوطن يجب الا يوجه الى صدر الوطن وإلا اصبح اداة بايدي اعداء الوطن.

هل تذكرون القرار التاريخي في لاهاي حول الجدار العنصري والاحتلال ومعاهدة جنيف الرابعة؟ بعد يومين أو ثلاثة منه اندلعت تلك الأحداث المخجلة لتقوض من هذا الإنجاز الهام وليتوقف المجتمع الدولي، ولو إلى حين، عن الحديث عن الجدار والقرار وينظر مشدوهاً إلى صور الحرق والمواجهة والخطف (ودائماً لمتطوعين أو نشطاء أجانب مؤيدين للقضية الفلسطينية)!

المطلوب وقفة مع الذات. وقفة هدفها الاول والعاجل وقف التدهور ثم التقاط الانفاس، ومن ثم تجسيد وحدة وطنية كفاحية تكون صمام امان في مواجهة التهديدات، سواء كانت خارجية ام داخلية. واستنهاض لكل ما تبقى من الهمة والوطنية الحقة، وتبقى منها الكثير، بالاضافة الى تعبئة الجماهير بعد فترة من الانكفاء، مع ضرورة توجيه أسئلةً ثاقبة تمكننا الإجابات عليها من ضخ وقود لتحريك العجلة الفلسطينية إلى الأمام.. ليس إلى الوراء.

* رئيس الحركة العربية للتغيير وعضو في الكنيست الاسرائيلي