معادلة الراحة في الحياة..!

TT

تطل علينا وسائل الإعلام مجتمعة بأخبار الدمار والويلات، حتى لينتهي المرء من مشاهدتها وقد تملكته حالة من الكآبة الموشحة بقلق داخلي مما سيحدث له، ولسان الحال يقول: «الله يستر»، وقد يستغرب القارئ إذا علم أنني لست حريصة على متابعة نشرات الأخبار التي تبثها الفضائيات بشكل دائم، وإنما هي الصدفة التي قد تقودني لمطالعة ما يسترعي الانتباه، اللهم إلا إذا كان هناك ما يستجد أمره ومنقول مباشرة، فلا بأس وقتها من المتابعة.

أمّا لماذا هذا المنحى؟! فوالله لقد وجدت أن ما يستفزني من أخبار، إنما يظل يلازمني طوال ساعات النهار، وقد يستقر في شعوري، بمنطقة اللاوعي فيه، بتأثير أكبر من أن أتجاهله، حتى إذا استوقفت نفسي لأسألها عن سبب شعورها القاتم، وساعدتها في استرجاع أحداث اليوم، أدركت أنه ذلك الاتصال بيني وبين أولئك المعذبين على الأرض، الذين لا أملك عند مطالعة أخبارهم إلا الشعور بالعجز عن التخفيف عنهم، والخوف من انتقال ما هم فيه إلى ما نحن فيه، بل وقد أضبط نفسي وقد تلبسني شعور بالذنب لهذه الخيرات التي أتنعم بها، وغيري لا يجد سقفاً يؤويه، إنه لتناقض يحتاج من المرء إلى التوفيق بين الواقع وفلسفة هذا الواقع، وإن كان هناك ظلم فالعدالة الإلهية أنزه من أن تتهم بأسبابه ـ حاشا لله. إنه إذن الخلل الذي يعود إلى الإنسان وتطبيقه للتعاليم السماوية، فلو أردت أن أضرب مثلاً بسيطاً أتحدث فيه عن مبدأ في الإسلام عظيم، وهو «التكافل الاجتماعي»، الذي لو قدر له أن يُطبق كما يجب، لوفر على الأمة المحرومة الكثير، ولأن الجميع يعرف ما يعنيه هذا القانون الإسلامي، فلن أتوسع في أدبياته، إنما سأشير إلى «العلة» التي أساءت لمنهجه، وتعود في أصلها إلى تبني نظرية الخلود في الدنيا، وتكديس الأموال التي يُظن أنه سيُتوسد بها في القبر، والتي بسببها لم يقدّر للاستيعاب الإسلامي المجتمعي النظر في توظيف هذا الميزان العادل، ولا أقصد بقولي إغداق الهبات والعطيات التي سرعان ما تتطاير ويظل وضع العوز على حاله، وإنما أعني المساهمة في مشاريع تكافلية لا ترجي الربح بمعناه المتعارف عليه، لأن الهدف الأساسي لوجودها أن تكون سداً لحاجة العاطلين، وإعطاءهم فرصة للمساهمة في تحمل المستلزمات المثقلة للكواهل، ولا مانع، انطلاقاً من ذات الغرض، اقتصار الأمر على المستوى الشخصي من دون انتظار الدور المؤسساتي. فلو أن كل قادر أعان غير القادر، لما أصبح الفرق الاجتماعي من الهوة ما بدأت معه بعض الفئات المجتمعية في التلاشي، أو لنقل الذوبان في غيرها من الشرائح الأخرى.

أمّا لمن يتبنى نظرية «ولم أعطي من لم يعطه الله!»، فليعلم أن مقابلها عبارة أخرى تقول: «لم يعطه الله حتى يكتب لك الفضل والثواب إن أنت أعطيته»، فإذا لم تقتنع بهذه الفلسفة فما رأيك بمقولة تقول: «ماذا لو انقلب الحال وحصل تبديل في الأدوار، ومن كان متصدراً البطولة من أمثالك أصبح ينتظر دوره وراء الكواليس، وقد تسدل المسرحية أستارها ولا يستدعك أحد!!» تذكر قول الله تعالي يا فتى: «...في أي صورة ما شاء ركبك»، صحيح أن الله خلقنا طبقات بعضنا فوق بعض، وحكمة الدنيا أن تتفاوت درجات البشر، ولكن الله خلق معنا إنسانيتنا التي منها نستمد إحساسنا العالي بالسمو والرفعة، وليس أدل على فعل الخير من راحة ومجلبة للسعادة، أمّا من مات ضميره، فيا لشقائه الذي لا يجدي معه قول، وإن كان الله بقادر على إحياء العظام وهي رميم، إنما الحياة عودتنا الرهان على المضمون حتى لا تتفاقم خيبات الأمل.

فإذا تركنا أمر الإحسان والاستحسان، وعدنا إلى البدايات، وتجنبي لأخبار وسائل الإعلام، أجدني وقد أخذت قراري ذاك شفقة على نفسي أن أتركها نهباً لكل ما يحلو للمذيع أن يقذفه في وجهي، وعليه فقد استعضت عنه بقراءة الصحف، وقد وجدتها من أروع وسائل الوصول للخبر وأمتعها للنفس، فعناوينها الرئيسية دائماً ما تعطي المرء فرصة ينتقي منها ما يروق وحالته المزاجية، فإن بدأ بقراءة الخبر، ثم جاءه في معرضه ما ينبئه أو يلوح له من بعيد، بأن اختياره لم يرق إلى مستوى التوقعات، فما عليه سوى الانتقال منه إلى غيره في رشاقة لا تكلفه غير الانتقال الى صفحة أخرى، وقد يرى مناوئ لهذا الأسلوب بأن أخبار الصحف لا تأتي بالخبر في حينه، فتفصله مسافة عن وقت حدوثه، وعليه، فليسمح لي قارئ بتساؤلي البريء: «وما الفرق إن جاءني الخبر في توه أو بعدها بفترة، ما الكثير الذي سيتغير أو يفوتني تعويضه!».

وهنا سأتناول أمرا أحرجني مع نفسي حين اكتشفته، ولكني تجاوزته بعد حين بدليل أنني أكتبه الآن، ويعلم الله بصدق ما سأرويه.. تبدأ أحداث القصة وقد أمسكت بإحدى الصحف و«استغرقت» في قراءتها ـ لا أريد أن أقول «استمتعت» مع أنها الحقيقة ـ إلى أن لفت نظري خبر استوقفني على الفور، ثم ومن دون تفكير بحثت عن تاريخ الصحيفة، لأجده متأخراً 12 يوما كاملة، وما أثار دهشتي استرسالي بالقراءة من دون أن ألحظ أي تغيير، اللهم إلا عندما تحدث الخبر عن أمر كان مجلس الأمم المتحدة قد بت في مسألته، والصحيفة تقول إن الموضوع ما زال في طور المباحثات، وهي المفارقة الثانية، فالخبر الذي نبهني لملاحظة التاريخ لم يكن عربياً، فالعرب أخبارهم تقريباً واحدة، تسير على وتيرة سيمفونية تحمل من النشاز ما تعودنا على سماعه، فالكل يتقن العزف وعلى أكثر من آلة وباقتدار، وهي ميزة بحد ذاتها، لكن المشكلة أن كل عازف يصر على استعراض مهاراته في العزف المنفرد الذي لا يمت بصلة لنوتة العازفين معه، والأدهى أن الجميع يحذون حذوه من دون وجود قائد «للاوركسترا» لتنظيم الأدوار على الأقل، ناهيك عن انسجام الموسيقى فهذه قضية مفروغ منها، فما من أحد مقتنع بالنوتة، فكل يأتي ونوتته في يده، فإذا قلت له أنها لا تتناسق مع السلم الموسيقى، قال لك: «أي سلم! أنا لا أعترف إلاّ بالدرج الذي أصعد سلالمه إلى مكتبي والى الكرسي الذي أجلس عليهّ».

هذا هو برنامجي في التحصيل الإخباري المعلوماتي، ولا أعني بكلامي هذا عزوفي عن متابعة الأفلام التسجيلية والمقابلات والمناظرات التي تبثها القنوات، فهذه أحرص على اختيارها بدقة لمتابعتها وتسجيلها في بعض الأحيان، ولكنها تلك النشرات المفزعة، والتي طالما حاولت أن أوجد معها بعضا من علاقة، فلم أربح إلا عناء السفر، وفضلت عليها رفقتي للكتاب لما فيه من عصارة فكر وتحليل للأوضاع بتوسع يوضح لي ما أشكل وينقذني من تشتت جهدي، وجعلي مجرد أداة يحركها «ريموت كنترول».

إنه سلوك قد لا يوافقني عليه البعض، بل وقد يكون مثار دهشته لظنه بموقعي الذي يحتم عليّ أن أتابع في سباق مجنون كل ما قيل هنا، أو ما صُرح به هناك، ولكن ما قلت به هو الحقيقة عارية. نعم أنا أكتفي بما أقرأه في الصحف، وبالتحديد صحيفتين بالعدد، واحدة دولية والأخرى محلية، مع التزامي الأسبوعي بقراءة كتابين على الأقل، وفي أسوأ الأحوال كتاب واحد عند الانشغال.

والعبرة في النهاية ليست في التسمر أمام شاشات التلفزة، وقراءة عشرات الصحف أو غيرها من كتب، وإنما هي العقلية التي ينبغي تعويدها على استيعاب ما تقرأ وإن كانت وريقات قليلة، ثم ربطه بالمحيطات، ليتبعه الاستنباط، ويا حبذا، وحتى يكتمل للشخصية حصد زرعها، أن تضيف إليها ملكة التخيل، وكما قال مهندس نظرية النسبية العالم اينشتاين «الخيال أعظم من العلم»، فالصورة المتخيلة تبعث في النفس إرادة لتحقيقها، فتكون المحصلة النهائية: نفس محبة للخير، يواكبها علم مستقى بعناية، مع تفهم يتبعه استنتاج، يتوج جميعه بخيال يبعث الحياة في الأفكار فإذا هي تمشي على الأرض.