أولويات واشنطن الاستراتيجية لضمان الهمينة

TT

شهر واحد يفصلنا عن الذكرى الثالثة لزلزال 11 سبتمبر 2001، التي تحل هذه السنة في ظرف أميركي دقيق، قبيل الانتخابات الرئاسية، التي يهيمن على حملتها المحمومة المأزق الأميركي المتفاقم في العراق، بعد أن كان غزو بغداد قد قدم بصفته المعركة الأولى الحاسمة لدحر الإرهاب وتصدير الحرية والديمقراطية إلى الشرق الأوسط الكبير.

فهل خسرت الولايات المتحدة حربها الموعودة ضد الإرهاب، أم أن العالم أصبح أكثر أمنا بعد المواجهة الشرسة المتعددة الاتجاهات والطرق، التي خاضتها الولايات المتحدة ضد شبكات الإرهاب والأنظمة الداعمة لها؟ وكيف يتسنى ضبط الرهان العالمي من حيث العلاقات الدولية، ودور الولايات المتحدة المحوري فيها بعد ثلاث سنوات من ذلك الحدث الهائل؟

للرد على هذه الأسئلة الحيوية، أصدر توماس من دونلي هذه الأيام، كتابا بعنوان «عملية تحرير العراق: تقويم استراتيجي»، لا شك أنه سيخلف جدلا واسعا في الدوائر السياسية والإعلامية الأميركية. والمؤلف كما هو معروف أحد رموز التيار المحافظ الجديد الماسك بسلطة القرار في الولايات المتحدة، ومن القيادات الفكرية الهامة لهذا التيار، وكان له دور متميز في بلورة العقيدة الاستراتيجية الأميركية الجديدة، وقد عرض أطروحته في دراسة مفصلة مقدمة لمركز أميركان أنتربرايز الذي يساهم في صنع القرار حاليا.

ينطلق من دونلي بوضوح، من تحديد الرهان الاستراتيجي العالمي الحالي، بأنه عصر «السلام الأميركي»، على الرغم من مظاهر الإرهاب والعنف المسجلة في بعض مناطق العالم. ففي أوروبا تجذر المناخ السلمي ووصل حده الأقصى، وكذا شأن اليابان، وحال الهند التي غدت دولة ديمقراطية مزدهرة وقوية، ولا تطرح مشاكلها المزمنة مع باكستان تحديا أمنيا عاجلا. وتبقى الصين وحدها بؤرة الخطر المقبل، بصعودها الاقتصادي، وإنفاقها الهائل على التسلح، وطموحها المتزايد للعب دور إقليمي ودولي متميز، بيد أن هذا الخطر ليس وشيكا ولا حتميا.

ويرجع من دونلي الربيع الديمقراطي السلمي الذي «ينعم» به العالم، إلى تدخل الولايات المتحدة المباشر في الساحة الدولية، والذي مكن من تحرير العديد من الأمم التي كانت تخضع للاستبداد والاستعباد في فترة الحرب الباردة، ومن آخر الأمم المحررة، أفغانستان والعراق. فالسمة الأولى للوضع الدولي الجديد هي، حسب المؤلف، التقاء السلم والحرية بفضل الدولة العظمى الوحيدة المتحكمة في الرهان الاستراتيجي العالمي.

بيد أن السؤال المطروح هو: إذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي قد حكم على الولايات المتحدة بالاضطلاع بدور شبه إمبراطوري، فهل تتمتع أميركا بالوسائل التي تضمن لها الهيمنة المطلقة؟

يجيب من دونلي، بأن مسلك الولايات المتحدة خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، يبين بوضوح، أنها أصبحت معتادة على دور الهيمنة، ولا تجد صعوبة نوعية في الاستمرار في تأديته. فالنزوع الأممي لا يشكل فقط أساس السلوك الأميركي، وإنما يعكس أيضا، البنية الأخلاقية التي يرى بها الأمركيون العالم. فالمصلحة الاستراتيجية التي اقتضت الإطاحة بنظام صدام ودعم الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير، هي في الوقت ذاته التزام أخلاقي مطلق بالحرية.

ومن ثم فإن الاستراتيجية الأميركية المستقبلية لضمان التفوق والهيمنة الأحادية، تتطلب تأمين الدور القيادي للولايات المتحدة في النظام الدولي في بعديه المؤسسي والقيمي.

في هذا السياق يتعين، حسب من دونلي، التركيز على الحضور الأميركي المباشر في المثلث الحيوي: أوروبا وآسيا الشرقية، بصفتهما فضاء الثروة والتقدم الاقتصادي، والشرق الأوسط بصفته مصدر الطاقة الضرورية للاقتصاد الصناعي.

بيد أن التحدي المباشر والأكثر حدة، الذي يواجه الاستراتيجية الأميركية، يتمثل في خطر الإرهاب الشرق أوسطي، الذي ينبع من انهيار المعادلة الإقليمية التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى. ولذا يتعين على الولايات المتحدة، لاحتواء هذا الخطر، القيام بعمل مزدوج هو منع الإرهابيين من الاستفادة من حالة الانهيار القائمة، وإعادة بناء نظام اقليمي يدعم الديمقراطية وحقوق الأفراد والأقليات.

ولئن كان من دونلي يرى أن الهيمنة الأميركية مقبولة عالميا، ولا تتعرض، حاليا، لأي تهديد حقيقي، إلا انه يشير إلى بعض الاتجاهات المقلقة في السياسة الدولية، النابعة أساسا من النجاحات الباهرة التي حققتها الولايات المتحدة في العقدين الأخريين. ومن بين هذه الاتجاهات عزوف أوروبا، الحليف الأبرز للولايات المتحدة، عن التسلح، وميلها للدعة، متمتعة بمظلة الحماية الأميركية.

في الوقت الذي تسعى الصين بوضوح إلى الاضطلاع بدور متزايد في الساحة الدولية، بصفتها قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة. وفي المدى القريب، يتمثل التحدي الصيني في مضايقة أميركا في الفضاء الآسيوي، بدءا من منطقة تايوان، التي تطالب بها بكين، وفي المدى الأبعد، ستتجاوز مطامح الصين البعد الإقليمي الذي لا ينفصل عن الشأن الدولي الذي غدا معولما.

وإلى جانب ضعف أوروبا المتزايد، وتعاظم النفوذ الصيني، يشكل الإرهاب في الشرق الأوسط، التحدي الثالث الذي يواجه السلام الأميركي. ومع أن مؤشراته الأولى بدأت منذ نهاية السبعينات، إلا أنه أصبح التحدي المركزي للمنظومة الأمنية الدولية، ولا سبيل للقضاء عليه بدون إصلاح المنطقة وإعادة بنائها.

أما التحدي الرابع الذي يشير إليه من دونلي، فهو الدول النووية أو شبه النووية المارقة، مثل باكستان وكوريا الشمالية وإيران، التي تحد قدراتها العسكرية من هامش التعامل الحازم معها.

أما التحدي الخامس الذي يذكره من دونلي، فهو إمكانية تحالف أطراف متمايزة يجمعها العداء للولايات المتحدة، سواء في شكل ائتلاف تقليدي بين دول (إيران والصين مثلا)، أو تحالف بين بلدان وأطراف غير حكومية مثل (تنظيم القاعدة).

ومن خلال هذا التشخيص للتحديات المستقبلية التي تواجه السلام الأميركي، يخلص من دونلي إلى أن الحفاظ على معادلة القطب الواحد تتطلب تحقق غايات ثلاث محورية هي: إدماج الصين في النظام السياسي الليبرالي، مما يتطلب تغيير تركيبة النظام القائم ذاته، وتشجيع مسار الإصلاح الليبرالي في العالم الإسلامي، سواء في المركز العربي أو الأطراف المحيطة به، والحفاظ على الشرعية السياسية للنظام الدولي بحماية الدول الضعيفة (بما فيها الدول الأوروبية)، واحتواء المخاطر التي يمكن أن تنجم عن نشاط الأطراف غير الحكومية.

ولأجل تحقيق هذه الغايات، يبلور من دونلي ثلاث أولويات استراتيجية، لضمان الهيمنة الأميركية المطلقة هي:

أولا: تحديد المضمون القيمي لاستراتيجية القومية الأميركية بصفتها استراتيجية نشر الحرية والدفاع عنها في العالم، مما يعزز شرعيتها داخليا وخارجيا، ويسمح بتحمل التكلفة المترتبة عليها.

ثانيا: الحيلولة من دون تشكل محور شر في صيغة ائتلاف عدائي للولايات المتحدة.

ثالثا: الحفاظ على وحدة الغرب وتضامنه مع الولايات المتحدة، واحتواء المشاعر العدائية لأميركا في الأوساط الحليفة تقليديا لها.

تلك أبرز الأفكار التي تضمنتها أطروحة من دونلي، التي تندرج في سياق الحوار الاستراتيجي الأميركي الراهن حول منزلة الولايات المتحدة في النظام الدولي، والتحديات التي تواجهها في المدى المنظور، وسنخصص لها وقفة تعليق لاحقا.