تفجيرات الكنائس .. محاولة تفتيت الموزائيك العراقي

TT

تعرضت كنائس بغداد والموصل يوم الأحد الماضي إلى سلسة من التفجيرات الهائلة، ضمن ما يتعرض له العراق من إرهاب ما زال قوياً ومؤثراً. لكن هل تقوى هذه التفجيرات على إلغاء شراكة تاريخية بين مسلمي العراق ومسيحييه وطوائفه الأخرى؟ فلو عدنا إلى ذاكرة التاريخ في أعسر ما مرَّ بالعراق وهو الغزو المغولي، نجده قد زاد في متانة هذه الشراكة. فالمغول يوم استباحوا بغداد ، رموا عليها ثلاثة أسهم تحمل عفواً عن مزارعي الأرض وطلبة العلم والعلويين، والكارثة حلت بشيوخ الحنابلة وفي مقدمتهم آل الجوزي أكثر من غيرهم. أما المسيحيون العراقيون فشفعت لهم الصلات القديمة مع البلاط المغولي، وكانت المسيحية قد وصلت عبر العراق إلى الهند وما وراء النهر، فاعتنقها الكثير من المغول، ومن مظاهر ذلك أن مغولياً مثل يهبالاها (القرن الخامس الميلادي) ينصب جاثليقاً للكنيسة الشرقية، وفي فترة متأخرة نصب يهبالاها الثالث (1281 ـ 1317) جاثليقاً أيضاً، وكانت زوجة هولاكو وأم ولده وولي عهده أبقا خان، دوقوز خاتون، مسيحية. وحسب الأب الدومنيكي في كتاب «الآثار المسيحية في الموصل» أن تعاطف المغول مع المسيحيين يعود إلى تضافر أسباب عديدة، منها «عقلية المغول التي تميل بطبيعتها إلى الخرافات، وتأثير النساء المسيحيات، والمصلحة السياسية». فغير المسيحيين منهم كانوا يسمون أولادهم بأسماء مسيحية ويعمدونهم، ويضيف: «إذ يرون في العماد طقساً سحرياً، تفيد ممارسته أكثر من نظرهم إلى حقيقته الأساسية».

هذه مجرد مقدمة لتوضيح الأسباب التي نفعت المسيحيين العراقيين من اجتياح المغول واستباحة بغداد لأيام. لكن كيف تصرف المسيحيون في ذلك الظرف العصيب إزاء مواطنيهم المسلمين؟ كتب مؤرخ معاصر للحدث هو صاحب الحوادث الجامعة، وهو غير المؤرخ ابن الفوطي الذي نُسب إليه الكتاب خطأً، يقول: «إن السيف وضع في أهل بغداد وقتل الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبق من أهل البلدة، ومَنْ التجأ إليها من أهل السواد إلا القليل ما عدا النصارى فإنهم عُين لهم شحان (حراس) حرسوا بيوتهم، والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندهم». طبيعي أن هناك مواقف مماثلة لا تعد لمتنفذين مسلمين إزاء مواطنيهم من يهود ومسيحيين وصابئة مندائيين وغيرهم، حصلت بفعل التعايش التاريخي وطبيعة الموزائيك الاجتماعي العراقي. ففي أيام فرهود 1941 أعلن وجهاء وعوام بغاددة حمايتهم لمواطنيهم اليهود من السلب والنهب، ووقف بعضهم أمام دور اليهود لحمايتها، والبعض الآخر أعلن أن دار جاره اليهودي هي داره فمَنْ يقترب منها يتحمل المسؤولية، فالوجيه السيد صالح وهو من سكنة محلة صبابيغ الآل وسط بغداد، قال لأولاده أمام جماعة من الناهبين والسالبين وهو يشير إلى دار جاره اليهودي: أذهبوا إلى بيت أختكم، ومعروف عند العراقيين ماهي حصانة الأخت بين الأخوان . ويذكر المسيحيون العراقيون، أوان العهد العثماني، فضل أسرة الجليليين المسلمة بالموصل، التي كانت تسعى لحمايتهم من حملات الصفويين ضدهم، وفي حروبهم مع العثمانيين. «ففي حصار السنة 1743، قتلت قوات نادر شاه الصفوي بالموصل عدداً كبيرا من المسيحيين واليزيدية، واستولت على الأديرة ونهبتها، وقتلت رهبانها، منها دير مار أوراها القريب من بلدة بطنايا في سهل الموصل، فأصاب الهلع أهل القرى، والتجأوا الى الموصل، حيث استقبلهم الحاج حسين باشا الجليلي وشجعهم وجهزهم بالمؤن والأسلحة» (البير أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية). وتأثراً بما دار من حكايات عجيبة حول ظهور العذراء مريم، وحمايتها للمدينة عبر أشخاص سماويين ردوا قذائف الصفويين إلى نحورهم من على سطح كنيسة العذراء، شجع الحاج حسين الجليلي حملة تجديد الكنيسة، وأكثر من هذا أنه «جدد ورمم على نفقته الخاصة ثماني كنائس في الموصل، منها كنيسة العذراء الطاهرة العليا والطاهرة السفلى». كذلك تدخل الجليليون لحماية مسيحيي قرقوش من الجيش الصفوي، فأمروا سكانها «أن يحملوا كل ما يعز عليهم ويتوجهوا إلى الموصل قبل عبور نادر شاه وعساكره إلى قرقوش» (بهنام، قرقوش في كفة التاريخ).

الى ذلك أشارت التقارير مع الأحداث المستجدة ، إلى مسؤولية جماعة إسلامية متشددة في تفجير كنائس وأديرة بغداد والموصل، وقد اختير يوم الأحد بالذات بقصد إفزاع المصلين وقتلهم. والمفجرون كعادتهم لا يحسبون حساب العجائز والأطفال والمعوقين الذي يحضرون في مثل هذه المناسبات، وحرصوا على تنفيذ مخطط شامل في أكبر مدينتين لتواجد المسيحيين هما بغداد والموصل. الغرض حسب بيانات عراقية رسمية هو تفعيل هجرة المسيحيين من العراق، بعد الهجرة الكاملة ليهوده، وفي الوقت نفسه يجري الضغط على الصابئة المندائيين، وعددهم داخل العراق وخارجه حوالي المائة ألف، ذلك عن طريق استباحة ديارهم ودكاكين الصياغة وهي مهنتم التاريخية. فالمفجرون ، وهم كما قلنا متشددون إسلامويون، لا يخرجون عن إطار تنظيم القاعدة، فلم ينظروا ، وإن نظروا لم يهتموا ، بوصايا الإسلام في شأن الأديان الأخرى، وبالأخص منهم الكتابيون، كذلك لم يلتفتوا إلى حوادث التاريخ والتعامل الخاص بين مسيحيي الشرق والإسلام، وهم بهذا التغاضي والتجاوز يضعون أنفسهم بعيداً عن الإسلام، سواء كان الإسلام السياسي أو الإسلام الديني البحت. وهنا أود التذكير ببعض هذه الأواصر وأبدأها باستقبال نجاشي الحبشة للمهاجرين المسلمين، ومنع أذى قريش عنهم، ورفضه طلب تسليمهم أو طردهم، وأن الرسول أقام مأتماً على روح النجاشي وهو المسيحي القبطي، ثم استقبال مقوقس الإسكندرية لمبعوث الرسول، وترحيبه بالإسلام ديناً يوقر الرسالات السابقة ويجل الأنبياء السابقين، وعاد المبعوث مع هدية فيها مارية القبطية أم إبراهيم، وجارية أخرى تزوجها شاعر الرسول حسان بن ثابت. واُذكر أيضاً بموقف عداس مع الرسول، وهو غلام مسيحي من أهل نينوى، يوم أمعن سادة ثقيف في إيذاء الرسول، فضمد عداس جراحه وسقاه ماءً وأطعمه، وحادثه الرسول في النبي يونس، وبطبيعة الحال عرض عداس نفسه لانتقام سادته، لكنه الشعور بالمسؤولية تجاه نبي أجل عيسى بن مريم والديانة المسيحية.

وهناك وصايا قرآنية ونبوية ولأئمة فقه وصحابة تجاه أهل الذمة أو أهل الكتاب، فالقرآن خص النصارى بالآية التالية «ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسّيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون». وجاء في وصية الرسول «ألا مَنْ ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة» (أبو يوسف، كتاب الخراج) والمعاهدون هم أهل الكتاب. وجاء في وصية للصحابي الجليل سلمان الفارسي في أمر أهل الكتاب «إذا صحبت الصاحب منهم تأكل من طعامه، ويأكل من طعامك، ويركب دابتك، في أن لا تصرفه عن وجه يريده» (أبو يوسف، كتاب الخراج)، وجاء في وصية الإمام أبي حنيفة النعمان لأحد تلاميذه:«عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم» (مناقب أبي حنيفة). يضاف إلى هذه العهود النبوية والراشدية لأهل الكتاب وفي مقدمتهم المسيحيون سواء كان بنجران أو العراق أو ومصر، وقد تقيد بهذه العهود معظم الخلفاء الأمويين والعباسيين، وبضوئها وضوء ما جاء في القرآن الكريم صدرت الأحكام الفقهية لمختلف المذاهب التي تحدد المعاملة الحسنة مع أهل الكتاب، فالقرآن يوصي: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون». فأي ظلم ظهر من المصلين في كنائس بغداد والموصل حتى يجار عليهم كل الجور، ويعرضون إلى تفجيرات هائلة؟

ليس هناك مِن شك أن يد الإرهاب طالت وستطال الجميع، وأول ما تطاله هو الأمن والاستقرار، وبالتالي عرقلة إعادة إعمار العراق، وتشريد شرائح عريضة من علمائه وخبرائه وأهل الحِرف والحَرف، فحسب توالي عمليات التفجير والقتل العشوائي في الأسواق والمساجد والأضرحة والكنائس ، الكل يفكر بالرحيل، وعاد الأردن والشام مقراً للنازحين العراقيين. لكن ما سيفقده العراق في المستقبل القريب، مع استمرار اضطهاد أهل الأديان الأخرى، هو فقدان موزائيكه الديني والمذهبي، وإن يراه المتشددون من شراة الجنة عيباً أو سيئة يراه بقية المسلمون دليلاً على فسحة الإسلام، وقوة العراق اجتماعاً وثقافة.

* كاتب وباحث عراقي