حكاية 2 أغسطس.. الاستثنائية!

TT

كان صدام حسين يرى في العراق حالة استثنائية. هذا الوصف يرد في خطاباته أكثر من مرة. المقصود هنا نظامه، ومن ثم هو شخصياً وليس عراق العراقيين.

ان جميع الاوصاف التي كان يصف فيها العراق، تستدير دورة كاملة لتصفه هو بلسان الطبالين. انه هو الاستثنائي... بطل الاستثنائيين من دون منازع. فقد قلد هذا الاستثنائي قبل تاريخ 2 آب 1990 بنحو عام، أمير الكويت أرفع وسام عراقي، وأشاد به علنا، كما أشاد بالدور القومي للكويت... فما الذي حدث ليغزوها بعد هذا التكريم؟ ولقد انفصل الاستثنائي عن كل تعيين، مثل مرضى الشيزوفرينيا، مثل أي جانحة تصنع لها تاريخاً: قبل وبعد!

يغزو صدام الكويت من أجل 3 مليارات وما يعتقد انها مؤامرة كويتية على الاقتصاد العراقي. هكذا طرحت المسائل قبل الغزو. في يوم الغزو كان صدام يلبي (نداء) ثوار الكويت. اذن هناك ثورة، والثوار انفسهم يرفعون سقف (النداء) الى طلب الوحدة، لأن الكويت جزء من العراق، الأولى فرع، والثاني أصل، ولا بد من رجوع الفرع الى الأصل، وصدام المبدئي يتمسك بهذا الفقه القديم، ثم لا يعود (أصل) الخلاف مهماً، فإنجاز عودة الفرع الى الأصل يعلو على كل شيء آخر.

في أيام الغزو الأولى، يقدم صدام لإيران رشوة، فهو يتنازل عن كل (المكاسب) التي حققها في حرب الثماني سنوات الباهظة التكاليف في الدماء والأموال. لماذا؟ لأنه اعتقد انه حصل على التعويض من كعكة الكويت.

في أثناء ما كانت الجيوش تجيش لطرد صدام من الكويت، اجتمع بعدد من رجال مخابراته وإعلامييه، ووصف الكويت بأنها لقمة دسمة فيها شوك، لا نستطيع بلعها ولا نستطيع تركها. لقد بدأت الكويت تتلون بالمذاقات والأطعمة وعمليات الهضم.

في الفترة نفسها عمم على الصحافيين والإعلاميين العراقيين، أمراً بضرورة الكتابة عن (الصراع الطبقي) وصراع الأغنياء والفقراء على مستوى الوطن العربي، وأهمية اعادة توزيع الثروة القومية توزيعاً عادلاً، وتحطيم (القارونيين). كان صدام الذي اعدم الشيوعيين يأخذ شيئاً من مفاهيمهم، في حين انه كان ينتقد فكرهم الاجتماعي الذي يؤدي الى تفكك الأمة. لقد تغير الحال الآن، فأكبر القارونيين في المنطقة، احتاج الى ان يهيج الفقراء العرب على اغنياء الخليج.

بعد ان طرد من الكويت، قال لجمع من الصحافيين والإعلاميين والأزلام، في حديث خاص، انه لو بقي في الكويت، لكان على باب كل منهم سيارتان!

كان بعض (المفكرين)، العرب الذين وصفوا صداماً بأنه براغماتي لكي يحسنوا صورته، يعرفون بالسر، ان البراغماتية تعني وجود سيارتين على ابوابهم هدية منه، فقد كان حاتمياً، وبراغماتياً في الوقت نفسه.

صدام الاستثنائي، والبراغماتي، لا ينسحب من الكويت، لأنه يعتقد ان وجوده هناك مسألة مبدأ. ولقد نسيت الدوافع الاولى، فإذا به يخوض حرباً تكلفه عشرات المليارات وآلاف الضحايا، بينما حصد الحصار الاقتصادي ما تبقى من ثروة العراق الاقتصادية والبشرية.

يطرد من الكويت، لكنه يأبى الاعتراف بأنه طرد بل انسحب. وفي خطاب انسحابه يقول ان القسطنطينية لم تسقط من مرة واحدة.

اذن، هناك مرة اخرى. وبالفعل، يقوم بتحشيد آخر من أجل استحصال وضع جديد أو لجس النبض، ويخاطب الناس قائلاً: سنفتح لهم خزائن الارض، ويقصد خزائن الكويت. وكان هذا تأكيداً اضافياً على تعليم جديد أصبح قوياً في الحياة الاجتماعية العراقية: النهب والسلب وفتح الخزائن!

في خطبه بعد 1995، سيؤكد صدام، انه لم يوقف اطلاق النار، بل أميركا هي التي اوقفته لأنها ووجهت بأكبر حرب دبابات مما جعلها تتراجع!

بعد أن عوض عن خسارته في الحرب بذبح العراقيين الذين انتفضوا ضد عسفه وسفاهته، خاطبهم ووعدهم بالديمقراطية.

بعد سنتين خطب فيهم وقال، ان الديمقراطية في العراق لا مثيل لها في التاريخ!

في تموز 2004 بعد ان استمع الى قائمة الاتهام التي وجهها له قاض عراقي، واصل صدام غزو الكويت باسم الماجدات والحرائر اللواتي قتل ازواجهن وأشقاءهن، وجعل المئات من الفقيرات منهن يبعن اجسادهن. كان صدام يقدم اعذاره باسم العرض المهان مواصلاً اخفاء امراضه الاستثنائية في الكذب والمناورات والحذلقة.

اليوم، لم يعد لهذا الرجل الاستثنائي أي مشاغل في الحكم، فهو مفكر وروائي، وقد علمنا انه بات شاعراً يقرض الشعر في سجنه، لكن ما ينقصه هو شاعر آخر يوظفه ليصحح له شعره وتفاعيله الزاحفة، ومن يدري، لعله في وقت فراغه غير النهائي، اكتشف انه لم يعد بحاجة الى أحد... وان لا احد يستطيع انقاذه من نفسه.

.. تلك هي حكاية 2 أغسطس (آب) 1990 الاستثنائية!

* رئيس تحرير جريدة المدى ـ بغداد