العالم الإسلامي والديموقراطية .. ومن قال إنها قصة لا تنتهي؟

TT

قرأت بتمعن مقالة الأخ الفاضل الشيخ حسن الصفار (العالم الإسلامي والديموقراطية .. قصة لا تنتهي)، والتي نشرت في جريدة «الشرق الأوسط» الدولية 31 يوليو المنصرم.

بسط الشيخ في مقالته، تاريخ موقف المسيرة البشرية من ظاهرتي (الرق والاستعباد ، والاستعمار)، وأبان كيف أن المجتمع البشري استطاع أن ينتصر ويتجاوز هاتين المسألتين ، وتخلص الناس من مآسيهما ، ثم اتخذ من تلك المقدمة مدخلاً ليقول: (وتجد البشرية نفسها الآن ، في معركة التخلص من الدكتاتورية .. لقد تجاوزت أغلب شعوب العالم هذه الحالة ، وأصبحت تتمتع بميزات النظام الديموقراطي، الذي يتيح لها المشاركة السياسية وحرية التعبير والرأي ، ويفتح لها مجال التداول السلمي للسلطة، لكن مجتمعات العالم الثالث ، ومنها العالم الإسلامي في معظمه محروم من هذه الفرصة .. وهذا سبب رئيس، في تكريس واقع التخلف ، والعنف ، ومظاهر الفقر والفساد .. ) ويتابع كلامه فيقول: (إن رقعة الديموقراطية تتسع عالمياً يوم بعد آخر ، وأصبحت الخيار الذي تتطلع إليه جميع الشعوب) ، ويا ليت الكاتب اكتفى بالتعبير عن عشقه ، وإيمانه الخالص بالديموقراطية منهجاً منقذاً للشعوب ، ومحققاً لآمالها في كل ما تصبوا إليه ، إلا أنه وبكل جرأة وشفافية ، شن هجوماً كاسحاً ضد مسيرة التاريخ الإسلامي ومخزونه الحضاري المجيد ، ناسباً له تهمة التأصيل والتشريع للفساد في الأرض ، حيث يقول حرفياً: (.. اتصاف المساحة الأوسع من تاريخ المسلمين بسمة الاستبداد ، حيث كانت اشهر الدول الإسلامية المتعاقبة بالتاريخ ، تحتكر السلطة بالقوة والغلبة .. مما يمكننا القول معه ، إن هناك جذوراً تاريخية للاستبداد ، ومدرسة فكرية لتأصيله وتشريعه).

بداية لا بد من التأكيد على أن حق التعبير عن الرأي مكفول - ولله الحمد - للجميع في المجتمع المسلم ، وما جاء في مقالته المشار اليها من مسائل جوهرية ، تمس هوية الأمة ، وتنال من تاريخها الحضاري المجيد ، لهو دليل قاطع على أن حق حرية التعبير متوفر مع النظام الإسلامي ، وبذلك تنتفي مقولة ربط حق حرية التعبير حصراً بممارسة الشكل الديموقراطي ، وأن على فضيلته مراجعة الأمر فذاك أولى وأنصف.

كنت أتمنى على الشيخ ، وقد استعرض بأمانة وإنصاف المراحل التاريخية لمعركة المسيرة البشرية مع (الرق والاستعباد) ، ألا يحشر نفسه مع الجاحدين للسبق التاريخي للإسلام في التعامل مع مسألة الرق والاستعباد ، وهم يصرون على أن الثورة الفرنسية هي بداية انطلاق مسيرة تحرير الإنسان ، حيث يقول: (إلى أن شهد أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدايات التوجه لإلغاء الرق وتحرير العبيد ، حيث أصدر مجلس الثورة الفرنسية سنة 1791م قراراً بإلغاء الرق ..) ، دون أن يشير - حفظه الله - ولو بكلمة واحدة إلى موقف الإسلام من مسألة الرق والاستعباد ، وقد كانت معالجتها ومسألة الفقر من أولويات مقاصده ، كما عبر عنها القرآن في مكة المكرمة (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة) ، أو كما عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه وهو يرد على رستم قائد الفرس يوم القادسية عندما سأله ما الذي جاء بكم ؟ فقال ربعي: لقد ابتعثنا الله تعالى لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وأفيد الشيخ، أن الثورة الفرنسية نفسها ، لم تتجاهل السبق التاريخي للإسلام مع مسألة تحرير الإنسان ، وقد جاء هذا الإنصاف على لسان خطيب الثورة الفرنسية المشهور (مسيو لا فاييت) ، وهو يتلو بيانها الأول ، وعندما قرأ المادة الأولى منه: (يولد الرجل حراً ولا يجوز استعباده) ، حيث صمت (لا فاييت) هنيهة ثم قال: (أيها الملك العربي العظيم عمر ، أنت الذي حققت العدالة كما ينبغي) ، مشيراً إلى عبارة عمر بن الخطاب الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

أما مسألة تكريس واقع التخلف والعنف ومظاهر الفقر والفساد في العالم الإسلامي ، والتي جعل الشيخ سببها حرمانه من نعمة الديموقراطية وبركاتها ؟! فإنني أحيل فضيلته بشأنها إلى المستر نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق ، فعنده الخبر اليقين حول مسألة العنف والفساد ، وبدايات التخلف والانحدار العلمي في المجتمع الأمريكي كعبة الديموقراطية وعرّابها العالمي الأول ، حيث أسهب في الحديث عن ذلك في كتابه الشهير (الفرصة السانحة) ، وأكتفي هنا باقتباس بعض عباراته حيث يقول (إن أمريكا تتحرك الآن باتجاه لولبي نازل نحو الأمية العلمية والتكنولوجيا..) ص 267 .

(إن أغنى دولة في العالم لا يمكن يقبل أن يكون فيها طبقة من الأشرار التي تجعل مدننا الكبرى غير آمنة ، إلى درجة أن الحياة فيها أصبحت لا تطاق ..) ص 268 . (إن أغنى دولة في العالم لا يمكن أن يقبل أن يكون استهلاكها من المخدرات مساوياً تقريباً لاستهلاك دول العالم مجتمعة..) ص 267 . ( إن أغنى دولة في العالم لا يمكن أن يكون لها أعلى معدل لارتكاب الجريمة في العالم..) ص 267 .

لا أحسب أن الشيخ حسن يقبل بحال ، أن ينسب إليه أمر اتهام الأمة ، عبر تاريخها الطويل المجيد بالاستبداد ، بل أنها مصدر التأصيل والتشريع للاستبداد ، ولكن هذا بالفعل ما صدر عنكم أخي العزيز، وحرفياً كما جاء بمقالتكم الموقرة (اتصاف المساحة الأوسع من تاريخ المسلمين بسمة الاستبداد .. إلى أن تقول: مما يمكن القول معه: إن هناك جذوراً تاريخية للاستبداد ، ومدرسة فكرية لتأصيله وتشريعه) ، فهل يصح أيها الشيخ مثل هذا الاتهام الجماعي بحق أمة ، وصفها ربها جلّ شأنه بالخيرية، بقوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ، وهل يصح مثل هذا الوصف ، بحق أمة سيد الأنام نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، القائل: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم .. ثم الذين يلونهم.. والقائل (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها) أو ليست خيريتها من أمر دينها ؟ وختاماً فإنني وبشكل عام ، لأرجو التنبه إلى مسألة جوهرية في قضية الحكم وأشكاله ومسمياته ، وإدارة شؤون مصالح العباد ، وهي أن الإسلام ركز بشكل أساس ورئيس على المبادئ والقيم والضوابط الشرعية والأخلاق، وأشار إلى القواعد والنظم إشارات عامة لتبقى مع الوسائل والآليات ، خاضعة ومحكومة بخيارات الأمة ، وظروفها ومصالحها ومستجدات الحياة عبر الزمان والمكان ، لذا ينبغي على علماء الأمة ومفكريها وساستها ، أن يتحولوا بأنفسهم من ساحات الجدلية بشأن شكل الحكم والوسائل والآليات ، إلى التشاور والتحاور حول القيم والمبادئ والضوابط ، التي تحقق للأمة العدل وتصون كرامتها وأمنها واستقرارها وارتقاءها وتمكن لخيرتها بين الأمم .

* الأمين العام المساعد لمؤتمر العالم الإسلامي رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار