السودان .. بين إعلان الحرب وتوطين السلام

TT

أحكمت أوضاع دارفور الحصار على السودان إلى درجة لم يعد هناك من لا يستشعر خطرها ويخشى عاقبتها سواء في المعارضة أو الحكومة أو في مختلف أرجاء السودان. وأخذت كل الأيدي تمتد للحكومة من كل القوى السياسية راغبة وعازمة على تدارك الطوفان، لكن الحكومة عوضاً عن أن تتجاوب مع هذه المبادرات أخذت تتخبط حينا، وتُغلب عليها العزة بالإثم حيناً آخر، خاصة بعد قرار مجلس الأمن الذي هو في جوهره ادانة لها وللعروبة إجمالاً، وإنذاراً مبطناً بالمضي قدما في إنزال العقوبات إلى درجة التدخل العسكري.

ولعل أبرز علامات تخبطها تجلت في الكيفية التي تعاملت بها مع قرار مجلس الأمن، فالناطق الرسمي باسم الحكومة أعلن رفضها للقرار ومن بعده جاء وزير الخارجية ليبدي تحفظه على ما نطق به المتحدث باسمها داعياً للتريث حتى يدرس مجلس الوزراء القرار! وبين هذا وذاك أطل الرئيس البشير ليعلن أنهم لا يتعاملون مع قرارات الأمم المتحدة كما تتعامل إسرائيل، ما يعني القبول بالقرار، ولاحقاً جاء بيان مجلس الوزراء ليعدد إيجابيات القرار ويؤيدها، وسلبياته ويأسف لها.

لكن الطامة الكبرى كانت في حديث القائد العسكري الناطق باسم القوات المسلحة الذي وصف القرار «بمثابة إعلان حرب من أمريكا وان القوات المسلحة جاهزة براً وجواً وبحراً لكل الاحتمالات»، واضاف:« نقول للأمريكيين لن نستقبلكم بالزهور والراية البيضاء»، وبالطبع كل أجهزة الإعلام العالمية رددت هذه التصريحات حتى يفهمها الجميع كل حسب رؤيته!.

وإذا أخذنا في الاعتبار ان الرئيس الفريق البشير هو القائد الأعلى للجيش، وهو الذي قاد انقلاب الإنقاذ على الديمقراطية، فكيف يمكن تفسير ما أدلى به الناطق الرسمي باسم الجيش وهو يتعارض مع ما صرح به البشير شخصياً؟..

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل ما زال أمام السودان أية فرصة لسيناريوهات يتلهى بها ويناور برغم كل المخاطر التي تزحف إليه زحفا ؟، وحتى لو كان هناك مجرد هامش بسيط، فهل مكانه ساحة الجيش، خاصة إذا كان التهديد بالأساس لمواجهة القوات الأمريكية التي تعتبر الأقوى في العالم. لأنه في هذه الحالة تكون المقارنة عبثية، والتعبئة لا تجد سبيلاً لإقناع أهل السودان ولا تؤدي إلا إلى استدعاء وتحريض القوى العظمى لاحتلال السودان. والتعبير الوحيد الذي صدق فيه القائد العسكري في تصريحاته النارية هو: انهم لن يستقبلوا القوات الغازية بالورود، لكن مع احتمال رفع الراية البيضاء التي قال إنهم لن يرفعوها!.

ومع الاعتراف بخطل هذا النهج في ازدواجية الخطاب يتبين أن الحكومة لم ترتفع حتى الآن إلى مستوى ما هو مطلوب منها، فالتعبئة المطلوبة تكمن في إدراك الحكومة بأن ما يحيط بالسودان فوق طاقتها وحدها، وعليها أن تدعو كل الفصائل للوحدة في مواجهة هذه المخاطر، أولا بتحصين النسيج السوداني من التمزق والانزلاق في حرب عنصرية تتحرك قوى كثيرة لجعلها حقيقة تعم كل أرجاء الوطن، علماً بأن غالب القوى السياسية متفهمة للوضع وليست شامتة على النظام أو حتى راغبة في اسقاطه لأن في سقوطه على هذا النحو ما قد يؤدي إلى زوال السودان كدولة موحدة. وثانياً لتوحيد الخطاب الداخلي بما يؤمن مسالك الإخاء والتسامح ويجفف منابع كل إرهاصات التجاذب العنصري. وثالثا لمخاطبة العالم بخطاب جديد يستنفر العون لتجاوز المحن والأزمات أكثر مما يستفزه ويخلط بين حابله ونابله.

ولا سبيل إلى إدراك هذا التوحيد والخطاب الجديد إلا باقتناع النظام بأن السودان يواجه بالفعل مرحلة جديدة تستوجب حكماً جديداً بكل ما تعني هذه الكلمة، ولا يبدو أن في ذلك ما يستفز النظام لأن اتفاق السلام الذي وقع مع حركة قرنق من أهم مرتكزاته تغيير صورة ومضمون الحكم القائم.

وفي تقديري أنه لا يجوز للسودانيين في هذه المرحلة فتح ملفات الخطايا والأخطاء وتصفية الحسابات لأن الوقت في هذه اللحظات أثمن لتلافي ما هو آت ولا ينتظر، بينما المراجعات والاستفادة من الدروس يمكنها الانتظار.

ومع وافر التقدير والاحترام للاتحاد الافريقي لما بذله من جهد وما اتسمت به المواقف الافريقية عموما من اتزان وإنصاف لحقيقة ما يجري في دارفور، فلا ينبغي أن نراهن على أن وحدة الجهة التي يمكن أن يوكل إليها الأمر بعد ان تدخل بالفعل مجلس الأمن وأخذ المسؤولية المباشرة، بل وليس من مصلحة السودانيين الصدام مع مجلس الأمن إنما مطالبته بالمزيد من العون والوقت. فالطريقة التي رفضت بها الحكومة مهلة الشهر يمكن تفهمها، ومع ذلك فإن ما يمكن فعله خلال الشهر من جهد مقدر قد يقود إلى إقناع المجلس بمتابعة الجهد، خاصة أن الاتفاق المبرم مع الأمين العام للأمم المتحدة يمهل السودان ثلاثة أشهر وان قرار المجلس فيه اشارة لالتزام المجلس بذلك الاتفاق، وهذه حجة قوية يمكن الاستناد إليها.

أما الجامعة العربية، التي سيعقد وزراء خارجيتها اجتماعا بشأن السودان يوم الاحد القادم، فنأمل أن لا ينقسم صفها بسبب تصويت الجزائر في مجلس الأمن لصالح القرار، بينما امتنعت الصين وباكستان عن التصويت مما اغضب الحكومة السودانية وانعكس ذلك في الهجوم والعتاب الذي ظهر في أجهزة الإعلام السودانية على الجزائر، وبدا كذلك أن موقف الجزائر مخالف لما صرح به الأمين العام للجامعة العربية!. والمأمول أن تلتفت الجامعة العربية للوضع الداخلي في السودان وتعمل بجد وسرعة للملمة صفه، كذلك العمل بجد وسرعة للمحافظة على العلاقات العربية الافريقية التي يخشى أن تكون قد مستها هذه الحملة الشرسة ضد العرب عبر أزمة دارفور، والتي ما عادت ضمن أولويات الهم العربي.