أحزاب المعارضة في تونس.. مالها وما عليها

TT

يصف عالم الاجتماع الإيطالي باريتو جوهر عمليّة الانتخاب السياسي، بأنها تكريس لمبدأ دوران النخب، وهو مبدأ له ما يقابله في علم العمران البشري لإبن خلدون، والمتمثل فيما أسماه بالتداول.

ومما لا شكّ فيه أنّ دوران النخب من منظور الثقافة السياسية الحداثية الغربيّة، يعد شرطا من شروط الممارسة الديمقراطية، وضرورة تقتضيها دولة المؤسّسات المنفصلة النفوذ والمتفاعلة في الأدوار.

إلاّ أنّ عمليّة دوران النخب السياسيّة على الحكم، تمثل نتيجة أكثر منه منطلقا. بمعنى أنّ دور الأحزاب المعارضة في أي دولة، يجب أن ينصب حول هدف تحقيق عمليّة الدوران هذه وجعلها آليّة من آليّات الحكم والمكتسبات السياسيّة.

فأين هي المعارضة التونسية التي تعيش هذه الأيّام امتحانا يتعلّق جوهرا وموضوعا بهويتها كمعارضة، في فترة مقبلة فيها البلاد يوم 24 أكتوبر القادم على حدث الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة ؟ وما أسباب تواضع دورها في دفع المسار السياسي نحو الأمام، وأين تتحمّل حقيقة تبعات تواضعها وأين تنتهي مسؤوليّاتها في ذلك ؟

إنّ طرح هذه الأسئلة، لا نهدف منه إلى تقديم إجابات حول واقع المعارضة التونسية، الذي لا شكّ أن تعقيداته وتفاصيله تخفي حقائق عديدة، وإنّما نرمي أساسا إلى محاولة التفكير في أسباب تواضع المعارضة التونسيّة، بما في ذلك الأسباب الذاتيّة والموضوعيّة له، خصوصا أنّ حدث الانتخابات القادمة لا يوفر لنا عمليا إلا التفكير في واقع هذه المعارضة وتأمله من خلال رصد بعض المعطيات، إذ لا يختلف مراقبان سياسيان في أن الفوز في هذه الانتخابات سيكون حتما لصالح التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم.

وأمام هذه الثقة المطلقة في حظوظ الحزب الحاكم سيصبح لا معنى للحديث عن قاعدة دوران النخب، وهي نتيجة يظهر أن للمعارضة التونسية نصيبا في الوصول إليها، سواء كان نصيبها في ذلك نصيب الأسد أو نصيب القط !

ولعل أكثر ما يعظم الحيرة إزاء تواضع دور المعارضة في الحياة السياسية التونسية وحقيقة ضعف مفاعيلها الاجتماعية، هو عراقة بعض هذه الأحزاب، ذلك أنّ الحزب الشيوعي سابقا والمسمى حاليا بحركة التجديد ، يعود تاريخ تأسيسه إلى ما قبل الاستقلال بسنوات عديدة أي أنه حزب يتجاوز عمره نصف قرن بكثير. إضافة إلى أن أغلب الأحزاب المعارضة هي خارجة من صلب التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم حاليا.

ومع ذلك فإن من يتفحّص الطرف المعارض المتكون من سبعة أحزاب معترف بها يصعب عليه تحسس عراقة الفعل المعارض، وسينشغل بجملة من المعطيات تعكس لدى بعض هذه الأحزاب نوعا من المراهقة السياسيّة. فالانشقاقات تكاد تكون سمة بارزة بهذه الأحزاب، ولا تكاد تمر سنتان أو ثلاث إلا وتتمّ عمليّة خروج فرديّة أو جماعيّة من المكاتب السياسيّة التابعة لها واللجان التنفيذيّة، بل ان حزب الوحدة الشعبيّة مثلا قد تجاوز الانشقاق إلى الانشطار إلى حزبين منذ تأسيسه.

ويظهر أن ظاهرة الانشقاقات قد عمقت تواضع أحزاب المعارضة في تونس وساهمت في تجزئتها، وهي التي تمثل جزءا تنقصه القوّة الكافية ليتحوّل إلى طرف من النوع الثقيل في الوزن السياسي.

كما أنّ ظاهرة الانشقاقات هذه، قد حرمت تجربة المعارضة من تحقيق تراكم يعزز خبرتها في الفعل السياسي المعارض، ويقوي لحمة تلك الأحزاب بدل بعثرتها لأسباب يدور أغلبها حول الصراع على الزعامة !

لذلك فإن الصراع الذي كان لا بدّ من أن يوجه ضد السلطة وبشكل متواتر، قد حاد عن المسار الصحيح لأي معارضة في العالم، وأصبح صراعا داخليا بين الأحزاب السبعة ذاتها وهو وضع على ما يبدو استفاد الحزب الحاكم منه سياسيا. وبسبب هذا الصراع ذي الوجهة الخطأ، رفضت هذه الأحزاب التوحد والالتفاف حول برنامج موحد يمكنها من أن تصبح جبهة قوية. ولا ننكر بأنّه من الناحية النظريّة يمتلك رفض الأحزاب للتوحد مبررات موضوعيّة مرجعها اختلاف الرؤى والتوجهات وكذلك الحلول. ولكن واقعيا تسقط مبررات الرفض، وتتحوّل إلى عقبة أمام تكوين طرف معارض قوي، علما بأن ظاهرة الانشقاق تجعل من التفكير في جبهة موحّدة لأحزاب المعارضة، مشروع «بالونة» كثيرة الفرقعات، إذ ستتضاعف الانشقاقات، وسيشتد الصراع حول الزعامة بشكل يتعارض وأهداف تشكيل جبهة للمعارضة.

هناك نقطة أخرى لا تقلّ أهميّة، وتتمثّل في أن أحزاب المعارضة التونسيّة، لم تستطع سوى أن تكون أحزابا نخبوية وليست أحزابا جماهيرية، لذلك فإنّ السؤال عن عدد المنخرطين بالنسبة إلى بعض تلك الأحزاب يشكّل إحراجا كبيرا لها، لا سيما أن الحزب المعارض له، أي الحزب الحاكم وهو التجمّع الدستوري الديمقراطي، يبلغ عدد منخرطيه المليونين، وبالتالي فإن البون الشاسع في مسألة تعداد المنخرطين ما بين الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، لوحده يمثل أزمة عميقة تحتاج إلى معالجة تمتد إلى مراجعة المفاهيم ذاتها، إذ لا شكّ في أنّ المعارضة يهتدي إليها المثقف والفئة النخبوية عموما إلا أنّها ستبقى محدودة الأثر والفعل إذا لم تراهن على القاعدة الاجتماعيّة العريضة، التي من عوامل جذبها تقديم برنامج يشبع توقعاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واقتراح البدائل الغائبة.

وقد تكون أهمّ فائدة تقدّمها الانتخابات الرئاسيّة والتشريعية القادمة تتمثّل في إذكاء المراجعة الضروريّة. ومن المهم جدّا أن تستند هذه المراجعة إلى النقد الذاتي الصريح وأن لا تستسلم لنظريّة التآمر عليها، وتستعذب إلقاء المسؤولية بأسرها على عاتق السلطة. ومما يؤكّد الحاجة الملحّة إلى هذه المراجعة هو أنّ واقعها المتواضع أحدث لديها إرباكا جعل بعضها يمتدح السلطة، وهو ما يتضارب كليّا مع مفهوم المعارضة وطبيعة دورها النقدي. في حين هناك أحزاب أخرى تضمّ الكثير من العناصر ردت الفعل بشكل ينمّ عن خيار راديكالي تعبر الآن عنه وربما بعد تحالف طويل مع السلطة مجلّة «الطريق الجديد» التابعة لحركة التجديد وصحيفة الموقف التابعة للحزب الديمقراطي التقدمي الذي اختار القطيعة منذ سنوات معها.

وإذا ما تجاوزنا قائمة الأسباب الذاتيّة لضعف أحزاب المعارضة في تونس، نجد في المقابل أسبابا موضوعيّة، لا تنفكّ هذه الأحزاب ترددّها وتشير إليها، من ذلك أنّها تقول إنّ ضعفها تتحمّله السلطة السياسيّة، التي لم توفر لها وسائل العمل الحرة التي يكفلها لها القانون، مشدّدة على إشكاليّة التداخل بين الدولة وحزب التجمّع الدستوري الديمقراطي. إضافة إلى تصريحاتها المتكرّرة بأن الحزب والدولة يمارسان ضغوطات شتى على أفراد المجتمع الذين يفكّرون في الفعل المعارض.

ومهما كانت أهميّة هذه الأسباب الموضوعيّة وغيرها، فإنّ الأكثر دعما لعمليّة المراجعة العميقة لدى أحزاب المعارضة هي تلك الأسباب ذات الطابع الذاتي، ذلك أنّه لو كانت بعض أحزاب المعارضة التونسية من النضج ومن المسؤولية السياسيّة والتاريخية، لما انشغلت عن دورها في صراعات وانشقاقات أنتجت بدورها أسباب ضعف موضوعية تبدو في الظاهر منفصلة عن العوامل الذاتيّة. ولذلك تمّ تصدير هشاشتها داخل الأحزاب وفيما بين أغلبها إلى سطح صراعها مع السلطة الطرف السياسي المعارضة له. وقد احتكم الصراع السياسي مع السلطة إلى استراتيجية ضعيفة الأدوات. ولن يكون المنقذ لأحزاب المعارضة التونسية من هذه الهشاشة سوى رهانات منها الرهان على خلق إعلام مواز قوي ومؤثر، لا سيما أن القانون يضمن لها تمويلات مشجعة للورق وللطباعة.

فلا بدّ من صحف معارضة تواظب على الصدور وتتنتزع اهتمام القارئ التونسي العادي انتزاعا. ومن خلال هذه الصحف يمكن لأحزاب المعارضة أن تعبر عن وجودها وأن تقوم بجزء كبير من دورها وبالتالي تؤسّس لنفسها قنوات تأثير اتصاليّة خاصّة بها تحقق من خلالها اكتفاء ذاتيا في الاتصال بالمجتمع التونسي والتواصل معه، ولا ننسى أن الدليل الوحيد على وجود حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي هما مجلّة «الطريق الجديد» و«الموقف».

كذلك فإنّه صحيح جدا أن واقع المعارضة في تونس ضعيف وهش، ولكنه واقع يمتلك في جوفه حلولا كثيرة مجدية تنتظر عقل معارض يعي ما يفعل وما يريد ومن أين تؤكل الكتف الأيسر!

* كاتبة تونسية

[email protected]