ملامح بيت أبيض يديره جون كيري..!

TT

إذا افترضنا أن جون كيري، مرشح الحزب الديمقراطي، فاز بانتخابات الرئاسية المرتقبة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ترى كيف ستبدو السياسة الخارجية الاميركية تحت ظل الإدارة الديمقراطية الجديدة؟

لا شك في انه لا توجد إجابة مؤكدة لهذا السؤال، فهناك فارق كبير، وباستمرار، بين ما يقوله المرشح، وبين ما يفعله عندما يصبح رئيسا. يضاف إلى ذلك، أننا أصبحنا ندرك أن الأحداث التي تقع خارج دائرة سيطرة أي رئيس ربما تضع السياسية الخارجية الاميركية في مسار غير متوقع آو غير مطلوب في الأساس.

فعلى سبيل المثال، بدأ جورج بوش فترة رئاسته محاولا تقليل تدخل أميركا في السياسة الخارجية، إلا أن وقوع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أجبره على تبني سياسة خارجية قائمة على مبدأ الاستباق، إذ بات تدخل واشنطن غير المسبوق يشمل 60 دولة في مختلف القارات.

هناك ثلاثة مصادر يمكن الاعتماد عليها في التكهن بسياسة كيري الخارجية، في حال انتخابه رئيسا; أولها وثيقة برنامج الحزب الديمقراطي بعنوان «أقوياء في الداخل ومحترمون في العالم» الذي أجيز في مؤتمر الحزب الذي عقد في بوسطن أواخر يوليو (تموز) الماضي.

نصف صفحات هذه الوثيقة خصصت للسياسة الخارجية، أي ان الحجم الذي خصص للسياسة الخارجية جاء ضعف سابقه في انتخابات الرئاسة لعام 2000، فركزت الوثيقة على منطقة الشرق الأوسط والقضايا ذات الصلة بالنفط والإرهاب، فيما ذكرت قضايا أخرى مثل مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإصلاح منظمة الأمم المتحدة وصعود الصين والهند والبيئة الكونية في وثيقة البرنامج، لكنها لم تحظ باهتمام أو علاج يذكر.

المصدر الثاني هو سلسلة الأحاديث التي أدلى بها كيري خلال الأيام السابقة، خصوصا بعد قبوله رسميا ترشيح الحزب له في مؤتمره الأخير لخوض انتخابات الرئاسة في مواجهة الرئيس الحالي بوش.

أما المصدر الثالث، فهو هوية أولئك الذين برزوا في الآونة الأخيرة كمستشارين لجون كيري في مجال السياسة الخارجية، إذ من المحتمل أن يظهر هؤلاء كمساعدين بارزين في إدارته في حال فوزه.

ويظهر إلقاء نظرة فاحصة على هذه المصادر الثلاثة أن سياسة كيري الخارجية ستكون مختلفة عن سياسة بوش في ثلاثة مجالات على الأقل:

> فواشنطن ستتخلى تحت رئاسة كيري عن حق اتخاذ خطوة استباقية ضد أعدائها، وستستخدم قواتها العسكرية فقط في سياق مشترك وبموافقة منظمة الأمم المتحدة. ومن شأن هذه السياسة منح الأمم المتحدة والحلفاء، الذين لم يتم تحديدهم، فيتو على استخدام واشنطن للقوة. كما يعني ذلك أيضا أن أميركا ستتصرف فقط في حالة تعرضها لهجوم وليس لمنع وقوع هجوم يستهدفها وحلفاءها.

> إدارة كيري ستتخلى عن التزام الرئيس بوش بترقية الديمقراطية، سواء كان ذلك باستخدام الضغوط أو الخطوات العسكرية أو الاثنين معا، لتتبنى بدلا من ذلك نهج «القوة الناعمة» مستخدمة الدبلوماسية وحرب الأفكار ومساعدات التنمية وحقوق الإنسان.

> أما فيما يتعلق بالحرب ضد الإرهاب، فسيركز كيرى على الإجراءات التي ينبغي أن تتخذها أميركا وحلفاؤها داخل نطاقها بدلا من فرضها على الآخرين. ويعني ذلك تعاون أجهزة الشرطة في ستين دولة توجد بها خلايا إرهابية، فيما ستنظم واشنطن تجميد أرصدة الجماعات الإرهابية وتغلق قنوات الاتصال بينها.

وعلى الرغم من التعميم الوارد فيها، فإن وثيقة برنامج الحزب الديمقراطي لا يمكن أن تتفادى ثلاث قضايا.

أولى هذه القضايا العراق. فجون كيري لا يملك فيما يبدو سياسة واضحة تجاه العراق، بل يحاول اللعب بفكرة تعيين مفوض عال دولي، أقرب إلى باشا تابع للأمم المتحدة، يحكم العراق لفترة غير محددة، إلا أن الأحداث في العراق قد تجاوزت ذلك بكثير. فالعراقيون لديهم حكومة انتقالية الآن، ويعدون لإجراء انتخابات عامة خلال فترة ستة أشهر. ترى، من ذا الذي سيقدم على فرض باشا على العراقيين وكيف؟

موقف كيري تجاه العراق يكتنفه الغموض. فقد صوت عام 1991 ضد استخدام القوة لإخراج صدام حسين من الكويت، رغم أن القرار الخاص بتلك القضية أجازه مجلس الأمن بالإجماع في ذلك الوقت. وفي عام 2002 صوت كيري لإطاحة صدام حسين من خلال الحرب، رغم أن هذا الخيار لم تؤيده الأمم المتحدة. ويقول كيري الآن انه نادم على ذلك التصويت، وبوصفه مؤيدا لمنهج التصرف من جانب واحد، كان من المفترض أن يصوت لمصلحة التدخل في الكويت عام 1991 وضد التدخل في العراق عام 2002، إلا انه فعل العكس في كلتا الحالتين.

تتعلق القضية الثانية بإيران. إذ تقول وثيقة برنامج الحزب الديمقراطي إن «حيازة إيران سلاحا نوويا أمر غير مقبول ويعرض أميركا وحلفاءها لمخاطر». استخدام كلمة «مخاطر» في هذا السياق، بدلا من «خطر» أو «تهديد»، مثير للاهتمام، إذ أن كلمة «مخاطر» لا تحمل مدلولا سلبيا تماما، في حين أن كلمتي «خطر» و«تهديد» لا يمكن أن تحملا سوى مدلولات سلبية. يلاحظ أيضا استخدام عبارة «غير مقبول»، التي تعني في القاموس الدبلوماسي أدنى درجات عدم الرضا.

إذن، ماذا سيفعل كيري بشأن إيران إذا تسلحت نوويا؟

الإجابة: لا شيء. إلا إذا أخذنا في الاعتبار مقترح كيري الأخير الذي لم يرد في وثيقة برنامج الحزب الديمقراطي، وهو تزويد إيران بأي كمية ترغب فيها من اليورانيوم المخصب، شريطة إشراف واشنطن على الوقود الناضب. (رفضت إيران هذه المقترح ووصفته بأنه نوع من «التفكير الاستعلائي»).

تتعلق القضية الثالثة بالنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وفيه تتنازل الوثيقة عن الوعد الذي قطعه كلينتون بإعطاء جزء من القدس للفلسطينيين، ليكون عاصمة لبلادهم في المستقبل. كما تدعو إلى دولة فلسطينية جديدة تحت قيادة فلسطينية جديدة، وهذا أثر باق من سياسة بوش. كما تنادي كذلك بإحياء تقليد المبعوث الخاص الذي ابتدره كارتر، وتخلى عنه جورج بوش. ومن المقرر أن يصبح مارتن إنديك، سفير كلينتون إلى إسرائيل، مبعوث كيري إلى الشرق الأوسط. ويقول كيري كذلك: « نحن نحتاج إلى بناء تحالفاتنا، حتى نفاجئ الإرهابيين قبل أن يفاجئونا. وأنا لن أعطي أية أمة أخرى أو مؤسسة عالمية حق الفيتو على أمننا الوطني»

ومع ذلك فإن كيري جعل استراتيجيته مشروطة بدعم بعض الحلفاء الذين لم يسمهم. فمن هم هؤلاء الحلفاء؟

كانت أغلبية أعضاء حلف الناتو قد دعمت أميركا في البلقان وأفغانستان والعراق، كما فعلت ذلك أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، واليابان. في حالة البلقان كانت اليونان وحدها، من بين دول البلقان، هي التي قادت المعارضة لسياسة واشنطن، أما في حالة العراق، فقد لعبت فرنسا الدور نفسه. ولذلك فإن كل ما يبشر به كيري هو إقناع دول مثل فرنسا واليابان بالانضمام إلى حلفائه.

وأخيرا فالوثيقة تذكر المملكة العربية السعودية مرتين; المرة الأولى تتعلق بالمنهج المتساهل لبوش تجاه قضية غسيل الأموال الخاصة بالإرهاب، والثانية تتعلق بتقليل الاعتماد على نفط دول أوبك ومن ضمنها السعودية. التهمة الأولى من الغموض بحيث لا تصمد أمام التحليل. أما الثانية فليست سوى أمنية طيبة كانت قد وردت في حملة كارتر الفاشلة عام 1979.

في خطاب قبوله لترشيح حزبه انتقد كيري السعودية، وقال إنه يريد أميركا التي تعتمد على الملكات الإبداعية لمواطنيها وحدهم. فهل يمكن أن يعني هذا أن كيري يريد أن ينهي تحالفا استمر أكثر من 60 سنة وحصل على مباركة جميع الرؤساء الأميركيين من الحزبين خلال هذه الفترة؟ وإذا كان ذلك صحيحا فإنه سيكون مناقضا لدعوة كيري للمحافظة على التحالفات التي تطورت عبر العقود.

خلاصة القول، إن فحص المصادر المتوفرة يوضح أن كيري دخل الحملة الرئاسية بدون سياسة خارجية واضحة. وقد تعرض لعدة مواضيع الغرض منها إرضاء قطاعات مختلفة من الرأي العام الأميركي. وهو يحاول أن يبدو قويا، مثل بوش، ليكسب ثقة القطاعات الخائفة من أن السياسات الناعمة لا تحميهم من الهجمات الإرهابية. وفي نفس الوقت فإن كيري يستعيد قضايا كانت قد أثيرت أبان فترتي كلينتون وكارتر ليرضي أولئك الأميركيين الذين يعتقدون أن أميركا إذا هوجمت فمعنى ذلك أنها ارتكبت خطأ ما.

نهاية هذا التحليل هي أنه إذا فاز كيري، فستدخل أميركا في حالة من انعدام اليقين لمدة عام أو يزيد. وهي المدة التي تحتاجها أية إدارة لتتحسس طريقها وتحدد خياراتها في مجال السياسة الخارجية.

والسؤال هو: هل سيسمح أعداء الولايات المتحدة لها بكل هذه الفترة من الصفاء والسكينة؟