هل يكرر العالم خطأ رواندا في دارفور؟

TT

اخترت تعبير «تمخض الجبل فولد فأرا بعد انتهاء موسم الولادة»، لكي يلائم القول الإنجليزي Too little too late، في وصف تهاون العالم، غربا وشرقا، جنوبا وشمالا، في أكبر كارثة انسانية يشهدها القرن الواحد والعشرون.

الاتحاد الأفريقي (وأصر على انه ديناصور منقرض الصلاحيات بشأن الديمقراطية وحقوق الانسان ومناهضة التطهير العرقي الذي ابتليت بها القارة)، صدرت عنه ضوضاء غير مقنعة بزيادة عدد «مراقبي وقف اطلاق النار» المزمع ارسالهم الى دارفور، من 300 الى 2000 . وهو ما يصعب تحقيقه عمليا، في وقت يكفي لإنقاذ مليون لاجئ تدعو احوالهم للرثاء.

قبلها، ولدت الدبلوماسية المصرية فأرا آخر ميتا، بإرسال نفر من «مراقبي السلام»، متناسية الالتزامات التاريخية والجغرافية والسياسية تجاه دارفور. فالسودان ومصر، تاريخيا، امة واحدة هي دولة وادي النيل، الى ان مزقها عسكر انقلاب يوليو; ومصر من أكبر اعضاء الاتحاد الأفريقي، ومن مؤسسي الأمم المتحدة، الى جانب قدرتها جغرافيا على تقديم المساعدة الإيجابية.

يتجاوز هذا التهاون بلدان أفريقيا، وفي مقدمتها مصر، الى المجتمع الدولي، الذي يرفض، باستثناء الكونجرس الأميركي، تسمية ما يحدث في دارفور، ابادة جماعية Genocide وتطهير عرقي.

الضوضاء على خوائها، لم نسمعها الا بعد صدور قرار مجلس الأمن في 30 يوليو الماضي، بالزام الخرطوم نزع سلاح الميليشيات، وحماية اللاجئين، وتكليف السكرتير العام، كوفي انان، بتقييم تعاون الخرطوم بعد ثلاثين يوما. والقرار لقي انتقاد وكالات مساعدة اللاجئين وجمعيات حقوق الإنسان، لأنه لم يحدد دورا لقوات دولية، او يكلف جهة محددة بتأمين الحماية للاجئين.

والملاحظ ان حكومة السودان ـ غير المنتخبة ـ لم تزل تناور، ولم تتخذ اية خطوات جدية لنزع سلاح الجنجويد وحماية اللاجئين وإعادتهم الى قراهم، وإعادة ماشيتهم المسلوبة.

ففي يوم الأربعاء، بعد اعلان الحكومة رغبتها في التفاوض مع حركتي التمرد ـ العدل والمساواة، وجيش تحرير السودان ـ والتعبير عن السماح لهما بـ«المشاركة في السلطة»، سيرت الاف المتظاهرين في الشوارع في قيظ اغسطس، باتجاه مبنى الأمم المتحدة في الخرطوم، تهتف بعبارات غوغائية العسكر والأنظمة الديكتاتورية، معلنة «الجهاد» ضد أميركا والغرب; رافضة قرار مجلس الامن.

وقبلها، صرح الناطق العسكري السوداني، الجنرال محمد بشير سليمان، بأن جيشه على استعداد لمقاومة اي تدخل اجنبي. ولاستمالة من غسل الإعلام المتحيز ادمغتهم في البلدان الاسلامية، نادى «بالجهاد الذي لم يزل بابه مفتوحا»، ضد القوى الأجنبية خاصة أميركا، التي لن يستقبلها الجنرال سليمان بالزهور، كما قال، ولكن «بأساليب قتالية سيفصح عنها في حينه».

فمن نصدق؟ الرئيس البشير وتصريحات التفاوض ومشاركة الآخرين في السلطة; ام المتحدث العسكري؟

ومن نصدق، الرئيس البشير في تلفزيون العربية، يوم الثلاثاء الماضي، يؤكد استمرار تحسن الأوضاع في دارفور، وعودة الاف اللاجئين الى قراهم، وإعداد حكومته من الطعام والمؤن ما يكفيهم حتى شهر أكتوبر; ام تقارير الأمم المتحدة؟

موظفو الأمم المتحدة في دارفور نفسها ـ وهم قوم محايدون ـ ارسلوا في اليوم نفسه، برقيات تشكو من اهانة المسؤولين والشرطة السودانية، وسوء معاملتهم اللاجئين لإجبارهم على اخلاء المعسكرات والعودة الى قراهم المحروقة، من دون توفير ضمانات امنية وقوات حماية لهم.

ورصدت وكالة انقاذ الأطفال Save The Children الخيرية، يوم الثلاثاء الماضي، هجمات الجنجويد في منطقة جنينية في غرب دارفور، حيث تتمركز اعداد كبيرة من افراد الشرطة وقوات الأمن الحكومية السودانية. واشتكت من تعرض سيارة جيب تحمل الحروف الأولى من اسم الوكالة نفسها، في سوق البلدة مساء الاثنين الماضي، للرصاص. بينما تعرض لاجئون للهجوم والضرب واغتصاب عدد من النساء. تكررت الأنباء نفسها من مصدر آخر، هو مراسلة ال بي بي سي، في جنينية، جيهان العلايلي ـ وهي مصرية لا يمكن اتهامها بالانحياز للغرب، ومشهود لها بالكفاءة العالية والمهنية والحياد ـ حيث خلص تقريرها يوم الأربعاء الماضي، الى ان المحافظة على الهدنة بين قوات حكومة السودان وبين جماعتي التمرد، «تتزايد صعوبة بطراد».

ولما كان القتال مع جماعتي التمرد (العدل وجيش التحرير)، وراء تسليح حكومة الخرطوم للجنجويد اصلا، فلا يحتاج الأمر لعبقرية علماء الصواريخ، كي لا تؤخذ تصريحات حكومة السودان، حول «احتوائها الأزمة» وتحسن الأوضاع، مأخذ الجد.

وفي حواره في بي بي سي، في برنامج Today ، صباح الأربعاء، لجأ وزير الخارجية السوداني، مصطفى عثمان اسماعيل، الى الحجة القائلة بأن الكونجرس فقط، هو الذي يستخدم تعبير «ابادة جماعية»، في حين لا تستخدم بقية العالم هذا التعبير.

وبفضل تقاعس العالم، واتباعه ديبلوماسية، يعتقد انها تتملق المسلمين، اضافة الى العقدة الناجمة عن اخطاء السياسة الأميركية في العراق، وعقدة الذنب القائمة لدى القوى الاستعمارية السابقة، التي حكمت افريقيا، وجد وزير الخارجية السوداني فرصة ذهبية حاول خلالها الضحك على عقولنا. فقد طالب مجلس الأمن بإجبار حركتي التمرد في دارفور، على تنفيذ القرار بدلا من حكومته، التي نفى علمها بتسليح الجنجويد. فمن إذن الذي يطير طائرات الهليكوبتر والقاذفات التي تدعم الجنجويد؟ ومن اين يحصلون على الأسلحة الثقيلة؟

حاول الدكتور اسماعيل التملص من مهلة الثلاثين يوما المحددة بقرار مجلس الأمن ـ رغم انها في تقديرنا وتقدير وكالات الغوث اطول من اللازم ـ مدعيا وجود «تفاهم» سابق مع كوفي انان، يعطيهم مهلة 90 يوما. غير ان انان، حذر، بعد ساعات فقط، حكومة الخرطوم بضرورة الالتزام بقرار مجلس الأمن، والا تعرضت للعقوبات قائلا: «القرار واضح ولا يحتاج لتفسيرات..فالقرار يلزم حكومة الخرطوم بحماية مواطنيها».

في رأينا، انه من دون ارسال اشارة واضحة لحكومة السودان بتهديد بقائها في الحكم، فستواصل المماطلة، فالقرار الذي وافق عليه 13 من 15 (امتنعت الصين وباكستان عن التصويت)، وصوتت بقبوله ثلاث من الأمم الأفريقية ( الجزائر، وانجولا، وبنين)، يمكن ان يستقدم او يستعجل التهديد المؤجل ـ والذي يقتصر على «اتخاذ اجراءات مناسبة»، وفقا للمادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تخول فرض عقوبات اقتصادية وديبلوماسية.

لذا يجب دعم العمل الديبلوماسي الدولي، بالتهديد بقوة عسكرية، تعطيه مصداقية الزام التنفيذ، وفقا للفصل السابع.

يجب ان يرى العالم جدية التهديد ـ ولا اقول التدخل ـ الآن، بدلا من انتظار ثلاثين يوما ( قد يهلك خلالها بضعة آلاف من الأبرياء)، مع الأخذ في الاعتبار، أن اي تدخل لحل اية ازمة في العالم اليوم، لا معنى له ان لم يسنده دعم مادي وعسكري ـ حتى ولو رمزي ـ من الولايات المتحدة، خاصة ان قرار مجلس الأمن هو قرار أميركي وضع حكومة الخرطوم في قفص الاتهام، وبالتالي يضع واشنطن امام مسؤولية تاريخية عن حياة مليون لاجئ.

رئيس الأركان البريطاني، السير مايك جاكسون، صرح بإمكانية نشر لواء كامل (5000 جندي) لحماية اللاجئين في دارفور، ومساعدة أعمال الإغاثة. فرنسا لها قوات في تشاد يمكن زيادة عددها، والتصريح بوضع امكانياتها تحت امرة الأمم المتحدة، مع دعوة الصحافة لمتابعة استعدادات قوات دولية اخرى ذات خبرة في افريقيا. وقيام شاشات التلفزيون، بنقل استعدادات اللواء البريطاني مثلا ـ او طلائعه الاستكشافية واللوجستية، للانتشار في قواعد قريبة من دارفور، سيعطي اشارة قوية للدكتور اسماعيل، بأن المجتمع الدولي لن يكرر خطأ رواندا في منتصف التسعينات.