كتابات للصيف ـ إرفع يديك

TT

تصوَّر الرسوم الكاريكاتورية منذ بدئها (في فرنسا، للمناسبة) عمليات السطو المسلح وقد وقف حرامي امام صندوق المخزن، ورفع مسدسه في وجه الرجل الواقف خلفه وهو يقول: مالك او حياتك! ويكون الحرامي عادة مقنَّعا بمنديل. هنا في «كان»، اشعر في الصيف ان بطل السطو يقف خلف الصندوق لا امامه. ومن دون قناع. خصوصا في البقاليات والمحلات الصغيرة التي يعرف صاحبها انه ليس امامه سوى فصل الصيف: اما ان يتحول الى بيل غيتس خلال شهرين، واما فليذهب جميع السياح الى الجحيم.

منذ ربع قرن تقريبا وانا آتي في الصيف الى جنوب فرنسا. كنا نستأجر شقة صغيرة على مدى سنوات في قرية بسيطة تدعى فيلنوف لوبيه دلني عليها وزير خارجيتنا الاسبق، الاستاذ فيليب تقلا. ثم انتقلنا الى «سان بول». وعندما كبر الاولاد قلنا انه لا بد من «كان» لان فيها السلوى وخصوصا عندما نكون، امهما وانا، موضوع الضجر. ويتضاعف كل شيء في كان، من الايجار الى معجون الحلاقة. ولكن على طول هذا الشاطئ مدينة واحدة اسمها كان، ويبدو ان ثمة من ابلغ اهلها بالامر.

وحتى الآن كنت اعتقد ان قلة الثياب في كان، تقليعة او موضة. ولاحظت انها في كل صيف تزداد خفة وقلة. وظننت انه المسيو لانفان او المسيو ديور، يريد ان يحرر الناس من الحشمة وضروراتها. هكذا خيَّل اليَّ. لكن هذا الصيف اكتشفت السبب الحقيقي بالصدفة المجردة. ففي العادة تهتم زوجتي بكل شؤوننا لكي اهتم انا بشيء يدعى الكتابة اليومية. لكن هذه المرة سبقتها بأسبوعين. ولذلك حملت مجموعة من القطنيات والقمصان وذهبت الى مصبغة الحارة: «متى يا مدام جولي اعود؟». «غدا بعد الظهر» قالت المدام جولي. وان غدا لناظره قريب. وكذلك بعد ظهره. وقفت في باب المصبغة وسلمت المدام جولي الايصال. وبسرعة واناقة ورشاقة وضعت على الطاولة امامي كيسا رماديا انيقا. وفي الكيس كل قطعة قطنية ملفوفة بالسيلوفان ومرتبة وموضبة. كانت الثياب مثل باقة ورد مشكَّلة. وشكرت المدام جولي وسألتها عن الكلفة. ولم يتحمل ضميرها الكبير الا ان تعد القطع من جديد: «امامنا 12 قطعة قطنية وثلاثة قمصان، أليس كذلك». قالت المدام جولي، فشكرتها على دقتها. ولما اعطتني الفاتورة تأملتها قليلا. وخجلت من ان اتأملها اكثر لكي لا اتهم بالتخلف، فحملت الكيس الانيق وخرجت. واكتشفت ان كلفة غسل وكي هذه الاشياء المسكينة تفوق ما دفعته ثمنا لها. والآن، في حالتها الحالية، لا تساوي عشر ما طلبت مني المدام جولي. وادركت للمرة الاولى لماذا كيفما تطلعت ارى الناس تكتفي بستر عوراتها، او اكثر قليلا. ذلك لان في امكان الشعب الفرنسي ان يشتري ما شاء من الثياب، لكن المشكلة الكبرى في ارسالها الى المكوجي. ولو عمل شعبان عبد الرحيم هنا لما كان في عمره ترك المهنة الى أي نجومية على الارض. يكفي عشرة زبائن، كل واحد معه عشر قطنيات والسلام على بيل غيتس.

كان يقال ان السمكرية هي مهنة العصر التي تحمل الثروات. ومن هنا رويت نكتة تقول ان سيدة اميركية سألت السمكري كم كلفة اصلاح الحنفية، فقال 100 دولار. فهالها الامر وقالت: «مائة دولار؟ هذه لا يتقاضاها طبيب». فرد الرجل: «اعرف ذلك تماما يا سيدتي. ومن اجل هذا تركت مهنة الطب».

طبعا كان ذلك قبل اكتشاف مهنة التنظيف والكي في «كان». انها، بالاضافة الى السطو من وراء الصندوق لا من امامه، اقصر طريق الى منافسة بيل غيتس.