جمال الذاكرة وجمالية النسيان

TT

كان موضوع اللقاء بين الأمير طلال بن عبد العزيز وعدد من الحقوقيين والاعلاميين العرب: الذاكرة وسن الرشد: متى يعتبر المرء راشدا حقا؟ وهل ينطبق ذلك على ابناء اليوم كما كان ينطبق على ابناء القرن الثالث، مثلا؟ هل كان ابن العاشرة في العام الألف، يعرف ويختزن ما يعرفه ابن العاشرة اليوم؟ وقال احدنا ان احدى الشركات الادارية الكبرى اجرت اختبارا مهما حول الذاكرة. فقد جعلت خمسة من الاداريين يحفظون خمسة اسطر. وبعد حين طلبت منهم القاءها. واختلفت الأسطر الخمسة لدى الرجال الخمسة. وأراد ان يقول ان الذاكرة ليست متفاوتة فحسب، بل هي ضعيفة ايضا.

وقلت نحن في عصر وحماد الراوية، حافظ المعلقات، في عصر آخر. لقد حفظ آلاف الأبيات من الشعر لأنه لم يحمل ذاكرته أي شيء آخر.

انسان اليوم يقرأ ثلاث صحف ويستمع الى 5 نشرات اخبارية وبرنامج واحد على الأقل، ويقرأ كتابا على الأقل في الشهر، ويلتقي عشرات الناس، ويحفظ اسماء الوجبات اليابانية والصينية والفرنسية، ومواعيد الرحلات وأرقام الهواتف، وتواريخ ميلاد ابناء عمته، واسماء الشوارع التي يمر بها، والطرقات التي يسلكها والملصقات التي تعلن عن ثلاثين حفلة في الصيف. ورويت ان ابن شقيقة زوجتي يسكن في باريس حيث يعمل. وعليه ان يحفظ 12 رقما مشفرا لكي يستطيع دخول مرآب البناية ثم مصاعدها ثم ممراتها قبل الوصول الى بيته. وهناك 4 أرقام على الأقل في العمل. وخلال يوم عمل من 8 ساعات يتعامل مع عشرين مراسلا حول العالم، ويدرس اولاده في المساء ويقرأ الوصفات الصحية.

هذه يوميات انسان عادي، فكيف بيوميات استاذ في هارفارد او ستانفورد. فما هو في الحقيقة مدى الذاكرة البشرية وطاقتها وحدودها. ان الانسان المعاصر اسفنجة من المعلومات والأرقام، محاط بالاذاعة والتلفزيون والصحف والآن الانترنت. اما انسان العصور الماضية فكان بلا صحف وتقريبا بلا كتب وكان يأتيه بالأخبار من لم يزود! والآن يعرف أي كائن منا في نشرة واحدة اخبار الصين واخبار الثلاجات التي تملأ بالرؤوس المقطوعة والحليب المبستر حرصا على الصحة وسقوط الأسهم وصعود الين وعدد زوار حديقة ديانا اوف سبنسر ومذكرات العاشق قبل الأخير.

بدأ النقاش حول طاقة الذاكرة عندما طرح اعلامي عربي على الأمير طلال بعض الاسئلة حول امكنة قديمة كانت قائمة في مدينة جدة ايام الملك عبد العزيز. وتدخل حقوقي عربي كشاهد ثالث. وفي النهاية احتكم الجميع الى مرجع في جدة ففازت ذاكرة الأمير. ولذلك طرح كل منا موضوع الذاكرة. ولماذا هي اقوى عند البعض واضعف عند البعض الآخر. وعدنا جميعا الى زمن الرواة وعصور الهدوء والعيش في الفلاة. واتفقنا على ان الذاكرة هي اجمل في الانسان، ليس فقط بسبب قدرتها على الحفظ بل خصوصا بسبب هبتها في النسيان. تصوروا عالما لا نسيان فيه ولا غفران.