جماعة التفكير والهجرة!

TT

لا خطأ في العنوان، أنا بالفعل أدعو إلى قيام جماعة التفكير بدلاً من جماعات التكفير، تفكير وهجرة لا تكفير وهجرة، تفكير في ما وصل إليه حالنا ونظرة العالم إلينا، وهجرة إلى عالم العقل لا عالم النقل، هجرة تبعدنا عن سيطرة عقلية التخلف وتأخذنا إلى عوالم أرحب. التفكير هو الفريضة الغائبة لا التكفير والتفجير. حالنا الآن وصل إلى مرحلة تحتاج إلى وقفة حقيقية، وسأعرض هذا الحال بصورة مختزلة ومبسطة لتسليط الضوء على حجم الخطر.

لك أن تتخيل هذا العالم كغرفة واحدة فيها ممثل عن كل الملل والنحل; ممثل عن كل جماعة عرقية ودينية، وبينهم ممثل عن العرب والمسلمين، تُرى مع من يتحدث هذا العربي المسلم داخل هذه الغرفة؟! بالطبع لن يتحدث صاحبنا مع ممثل روسيا، فنحن لدينا مشكلة مع الروس في الشيشان، يقف فيها أبناء العرب مقاتلين ضد «الكفرة والمشركين»، ليس مهماً أن نخسر روسيا، لكن ماذا عن الباقين؟ العربي المسلم ايضا في هذه الغرفة لن يكلم الأفارقة السود، ذلك لأنه داخل معهم في صراع في السودان، ولن يقبل الأفريقي ان يحادث العربي الذي يدخل معه في مواجهات في معظم دول افريقيا من اليوروبا في نيجيريا إلى جماعة جون قرنق. إذن العربي حتى هذه اللحظة لن يتحدث مع الروسي أو مع الأفريقي، فمع من سيتحدث؟!

بالطبع أيضا لن يتحدث العرب مع ممثل امريكا في هذه الغرفة، لأنها دولة امبريالية يناصبها العداء، فهي التي تحتل العراق وتساعد إسرائيل ضد الفلسطينيين، ويعلن عليها العربي المسلم جهاداً كجهاد جماعة مقتدى الصدر في النجف والزرقاوي في الفلوجة وبغداد، كذلك جهاد الإعلام العربي الذي يقرأه الأمريكيون كل يوم ويشاهدونه في الصحف وعلى الفضائيات، إذن العربي ايضا لن يتحدث مع الأمريكي.

أما إذا صنّفنا من هم في الغرفة حسب دياناتهم، فبالطبع لن يتحدث العربي المسلم مع ممثل اليهود الذي يشتبك معه في حرب منذ خمسين عاماً على أحسن الفروض، كذلك لن يتحدث العربي مع المسيحيين «الصليبيين» في هذه الغرفة سواء كان هذا المسيحي أوروبيا أو أمريكيا أو حتى لاتينيا، فحتى الكوريين دخلنا معهم في معركة بعد ذبح أبنائهم على الهواء مباشرة، كما رأينا في حالة كيم سون إل. يبقى الهنود والصينيون، فالعربي المسلم الآن في حرب مع الأوائل حول كشمير، فهو مؤيد لباكستان ضد الهنود على مستوى سياسي وديني، فعبدة البقر من الهندوس لا يستحقون احتراماً أو محادثة، أما الصينيون فهم جماعة يضطهدون اخواننا من اهالي «الهواي»، من مسلمي الصين، دولة شيوعية لا تؤمن بالله، إذن لن نتحدث مع ممثل الصين في الغرفة ايضا.

العربي المسلم الموجود في الغرفة لن يتحدث مع أحد ولن يحادثه أحد لأنه تقريباً معادٍ للعالم كله، مرة على أساس عرقي مما يجلب عليه عداوات الآخرين، كما نرى الآن في حالة تحمس اعضاء الكونغرس الأمريكي السود ضد حكومة البشير في السودان، فالبشير لا يعادي قرنق زعيم حركة المتمردين فقط، إنما يعادي كل اعضاء الكونغرس الامريكي من السود ويعادي كوفي أنان وكثيرا من القوى المتنفذة عالميا، التي بدأت تؤكد هويتها العرقية. أمام كل هذه العداوات، ألا يدعونا ذلك إلى التفكير، أم أننا سنصر على فلسفة التكفير، لم يعد لنا أحد نحادثه في هذه الغرفة المعروفة في العالم، لقد كفرنا الجميع، كفرنا كثيرا، وفكرنا قليلاً، اصبحنا نعاني من «الوحدة» العربية، الوحدة بمعنى العزلة التي خصصت لها مقالاً سابقاً في هذه الصحيفة.

ألا يدعونا كل هذا إلى هجر طرقنا البالية في التعامل مع العالم بتعقيداته السياسية وتبني طرق اخرى يكون التفكير لا التكفير هو الأساس فيها، ألم تكن دعوة ديننا الاساسية هي دعوة تفكير لا دعوة تكفير، علينا فقط ان نحصي آيات الدعوة إلى التفكير في القرآن الكريم لنرى كم نحن نبتعد عن ديننا، نبتعد عن التفكير وتدريجيا نحتضن فلسفة التكفير، كفرنا العالم كله ورأينا العالم كله بمثابة مؤامرة ضدنا، تخيلنا كل إنسان في العالم وكأنه يصحو في الصباح فقط ليحيك المؤامرات ضدنا، فهل هذا معقول؟! ألا يدعونا للتفكير أن نسمع دعوات تطالب بخروج الكافرين من بلاد العرب؟ تُرى ماذا لو ظهرت قوى اخرى في الغرب مماثلة وطالبت بإخراج العرب والمسلمين من بلاد أوروبا وأمريكا، من جزر الغرب؟! هل تستطيع الدول العربية استقبال اكثر من عشرين مليون مواطن من اصل عربي يقيمون الآن في أوروبا؟ هل نحن قادرون على استيعاب سبعة ملايين عربي يعيشون في امريكا وكندا اذا ما قرر متطرفو الغرب أن يخرجونا من ديارهم؟! أليس هذا مدعاة للتفكير؟! أليس هذا مدعاة للهجرة إلى عالم العقل وعالم المقبول والمعقول من التصرفات بدلاً من حالة الطيش التي بدأت تسيطر في إعلامنا وأقوالنا؟! كيف لنا ان ننادي بطرد الكفار من عندنا، بينما أبناؤنا يموتون غرقاً في قوارب مهترئة قبالة سواحلنا المتوسطية املا في الوصول الى أوروبا؟! ألا يدعونا هذا إلى التفكير، ألا يدعونا إلى التفكير أن 45 إلى 50 في المائة من العرب لا يعرفون القراءة والكتابة، ألا يدعونا إلى التفكير أن كثيرا من عواصمنا ليست فيها اشارة مرور واحدة صالحة للعمل؟!

ادعو إلى التفكير والهجرة كبديل عن مدرسة التكفير التي تسيطر على عقليتنا، تكفير مرة باسم الدين، وتكفير مرة باسم الوطنية، وتكفير باسم العرق، فمن لا يتبع القطيع، وقرر التفكير بمفرده، فهو إما كافر من وجهة نظر الإسلامويين، أو خائن من وجهة نظر القومجية، وغير عربي من وجهة نظر عنصرية.

تبني أسلوب مدرسة التكفير والهجرة أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن من تشرذم وتشتت واحتلال ومهانة، لقد حان الوقت الآن لظهور مدرسة التفكير كبديل لمدرسة التكفير والهجرة إلى العقل وترك الخزعبلات؟! اعتقد ان الوقت يفلت من بين اصابعنا، ولم يعد امامنا سوى التفكير كفلسفة بديلة للتكفير.