لا حرية ولا دستور

TT

عندما أرى «تظاهرة» «شعبية» تجوب شوارع مدينة عربية هاتفة لسياسات النظام، خصوصا ذوات الحجم الكبير والشعارات المكابرة ـ اشعر كم هي الحرية بعيدة عن هذا العالم. وأدرك ان أمامنا سنوات طويلة قبل الخروج من ثقافة القطيع. ففي الاجزاء المرتفعة من الأرض لم يعد هذا «التقليد» واردا او مسموحا. ولا يحق لحكومة او حكم او نظام ان يطلب من الناس الهتاف مع او ضد أحد أو شيء. وعندما نزل مليون متظاهر يهتفون ضد الحرب في العراق كانت الحكومة البريطانية تستعد لارسال الجيش الى البصرة. ولم تستطع ان تطلب من مؤيديها التحرك لإثبات العكس. فالمتظاهر في التعريف الأخير هو شاهد. والدول الراقية يمنعها القانون ان تطلب من مواطنيها ان يشهدوا بالزور. او ان تطلب من فريق تأييدها ضد فريق وطني آخر. فقط في الساحات العربية تخرج «الجماهير» لكي تستنكر حقوق الاخرين او الزعامات المعارضة وترفع شعارات القتل والغاء الآخر واسكاته. وقبل فترة خرجت تظاهرة في احدى العواصم تطالب بالغاء الجيوش العربية. وكان ابرز ما في التظاهرة عدد القبعات الحمر في مقدّمها! لكن الهتّافين مضوا يهتفون دون ان يلاحظوا الأمر. ولا المنظمون تداركوا المسألة. فكل ما هو منظم طبيعي وعفوي ولا بد منه.

في مرحلة ابعاد محمد نجيب وإلغائه، خرجت في القاهرة تظاهرة تحمل اغرب شعار حمله أي تجمع في التاريخ. فقد كان المتظاهرون يهتفون: «لا حرية ولا دستور»! وكان على العالم ان يصدق ان الشعب المصري الذي سار خلف سعد زغلول ومصطفى كامل واحمد عرابي، يعني فعلا انه لم يعد يريد الحرية ولا عاد يريد الدستور. ولست ادري ان كان أحد من المتظاهرين قد سمع نفسه بما يردد. او كان من النوع الذي يعرف معنى الحرية او معاني الدستور. او يدرك ما معنى وجوده خارجهما. واذا كان المتظاهر نفسه لا يصدق تظاهرته، فأي انطباع يمكن ان تتركه لدى الآخرين، خصوصا في البلدان التي يضمن فيها، الدستور والحرية، للناس حق عدم الشهادة بالزور وحق عدم التجمع القسري وحق الخروج على ثقافة القطعان والرعيان.

ذهب جورج بوش وطوني بلير الى العراق فوجدا ملايين المعترضين. وضربت «القاعدة» ابراج نيويورك فصدر في اميركا تقرير مستقل ينحي باللوم على الأمن الأميركي واجهزة الاستخبارات. ولم يكن في امكان السي.اي.ايه ان تدفع الى شوارع واشنطن ألف شخص يطالبون بعودة جورج تنيت عن «استقالته». مهما بلغ الحاكم من شطط او قسوة، فان احكام القانون نفسه لا تتغير. والجندي يمكن ان يساق الى الحرب ولكن المواطن لا يمكن ان يساق الى التظاهر دعما لميليشيات القتل وفظاظة التشريد. وحدها الساحات العربية تخلو طوال اعوام من تظاهرة ضد شارون او ضد الجوع والفقر، وفجأة تخرج تظاهرة عارمة مدججة بالسلاح لتطالب بإلغاء الجيوش الأخرى. او تخرج فجأة تظاهرة تحرض الدولة وتصفق لها في قهر فريق وطني آخر. ولا أدري بماذا يفكر المتظاهرون عندما يعودون الى بيوتهم. او لعلهم لا يفعلون. التفكير يقض المضاجع.