صهد الشمس

TT

عندما قرأت مقالة أخي وصديقي وأستاذي سمير عطا الله والمعنونة: «في يوم، في عقد، في شهر» تذكرت أغنية عبد الحليم المشهورة التي لها معي ذكريات كدت أنساها، وأعني بها أغنية: «في يوم، في شهر، في سنة»، وأزيد عليها أنا من عندي تبرعاً: وكذلك في (قرن) ـ أي في قرن كامل من عمر أمتنا العربية المصابة بداء (الاستسقاء).

عندما قرأت مقال سمير كنت بالفعل (أسيفاً)، ولا أدري إلى الآن لماذا أنا استخدمت هذه المفردة بالذات، وما هو مدلولها الجارح أو المداوي أو المتبلّم.. لكنني أذكر ـ وما أقل ما أذكر ـ أنني قرأت مرّة عن (أبو بكر) رضي الله عنه ـ ولا أذكر المصدر كالعادة ـ أنه كان رجلاً (أسيفاً)، فأعجبتني الكلمة، وبحثت عن فحواها ـ أي مصدرها ومعناها ـ فلم أجد، لكنني فسرتها على طريقتي الخاصة وهي: أن الأسيف هو الإنسان العاطفي الضعيف القادر على معانقة الحياة حتى لو كان بينه وبين الموت مقدار ذراع. لهذا كنت على الدوام من أنصار (الأسف) لا التأسّف.

لقد كتبت مرّة واحدة عن سمير مقالة وكانت بعنوان: (النظيف)، وهناك احتمال مؤكد أنه لم يقرأها، ولا يهمني ذلك، لكن يهمني أكثر أن يعلم أنه خرج من رحم أمه وفي يده قلم سوف ينتهي مداده حتماً في يوم من الأيام ـ للأسف ـ وها أنذا عدت مرة أخرى للألف، واللام والهمزة والسين والفاء، من دون أن أدري لماذا؟! المشكلة أو بمعنى أصح (اللاّمشكلة)، انني خلقت هكذا على الدوام كأي فراشة يناديها اللهب وهي تناديه.

لا اعتقد أن هناك كاتبا يوميا في جرائدنا العربية ـ وما أكثرها وما أقل بركتها ـ أبلغ وآلم وأهضم ـ ولا أدري إذا كان تعبيري صحيحاً ـ لا اعتقد أن هناك كاتبا مقبولا على كل الأصعدة أكثر من سمير عطا الله، وهذه كلمة حق (ملعلعة) أقولها بكل تجرد، ولا أطلب منه أي (بخشيش)، والله يعطيه (العافية) لا على الطريقة المغربية ليذهب إلى حيث ألقت (أم عمرو)، لكن على الطريقة الشامية ليتقلّب على جنبيه بين حوراء وهدباء، ولا بأس من عمياء.

والآن ادخل (بالجد) ـ وما أقل ما ادخل ـ وأسأل ـ وما أكثر ما أسأل: كم ضاعت على أمتنا الحمقاء هذه من السنين؟! كم دفعنا من الثمن؟!، كم تضورنا؟! كم نزفت من أبنائنا الدماء؟! كم تفجّرت من أعين أمهاتنا الدموع؟! كم من الأمتار أو الأميال من الأقمشة البيضاء لفت على جثث ضحايانا بطريقة مجانيّة رخيصة ليس فيها لا شهادة ولا استبسال ولا هدف منطقي، إنما هي رقص على إيقاعات البنادق والقنابل والمتفجّرات والعبث الأهبل المجنون، ويا ليته كان مثل عبث مسرح (بيكيت) مثلاً، أو أشعار (اليوت)، أو رسومات (جياكومتي)، أو حتى أفلام (هيتشكوك) المرعبة، لكنه عبث بدائي مقرف، ابتدأنا (بالقاهر والظافر) التي لم تنطلق من مرابعها وما زالت، وانتهينا بالطائرات التي تهرب فجأة إلى أرض إيران كأي (وطاويط) وما زالت.

انها أسئلة أطلقها كأي (استفراغ) ـ واعتذر عن هذه الكلمة ـ لكنني متأكد أنه لا من مجيب، ولا انتظر أساساً الإجابة، فالإجابة محسومة وتمد لنا لسانها كلسان الزرافة على الآخر.

الشيء الوحيد الذي لا (آسف) عليه، لكنني أكاد أن أبكي عليه، هو: ذلك الاختلال النفسي، ولا أقول العقلي، الذي وصل إلى بعض الأجيال العربية الناشئة، وأدهى وأمر من ذلك هو: ذلك (البنزين) الذي يصبّه على النيران من وخط الشيب لحاهم (وعنّاتهم) من المنظرين الذين لا يدرون فعلاً، هل هم (مشرّقون أم مغرّبون)، وكأن الواحد منهم يقول مثلما يقول مدمن المخدرات: «أنا ومن بعدي الطوفان».

يا أيها القارئ الجالس على أريكتك وعجيزتك الآن، أو الواقف تحت صهد الشمس ـ هذا إذا كانت هناك شمس ـ أرجوك ألاّ تعذرني، وإذا كان لديك حجر أكبر من رأس (غليص) فارجمني به حالاً، أرجوك، لأنني استاهل بكل جدارة، فعصري هو هذا العصر، الذي يعصرني، ويعصرك أنت، ويعصر كذلك سمير بن عطا الله.