الخلافة الإسلامية في لندن!

TT

عندما كنت اتجول في شارع «ادجوار رود» الشارع العربي الشهير في لندن، لفتت نظري مجموعة من الرجال المسلمين المتدينين، يقفون على احدى الزوايا، وامامهم طاولة عليها مجموعة من النشرات والكتب، وخلف ظهورهم لوحة كبيرة تحمل شعارات متنوعة عن كارثة فقدان «الخلافة الاسلامية»، وانه لا حل للمسلمين الا باستعادتها. ألقيت نظرة على عناوين الاصدارات، التي كان الشاب الجالس وراءها يحمسني لاقتنائها، فعرفت انني امام كشك من اكشاك لندن التابعة لـ «حزب التحرير».

والحق ان حزب التحرير ليس الا نموذجا غريبا لتحجر الاستجابات الزمنية لأحداث تاريخية كبرى، دون الاخذ بالاعتبار ما جرى من مياه الاحداث تحت ساقية الواقع!

وبكلام أوضح، فان عقدة فكر حزب التحرير هي المسألة السياسية المتمثلة في وجوب تملك الدولة، وسيلة وحيدة للاصلاح والعودة الى زمن القوة.

الحزب الذي أنشأه الشيخ الفلسطيني الاردني تقي الدين النبهاني (ولد سنة 1913، وتوفي في ظروف غامضة كما يقال سنة 1977)، لم يكن إلا نتيجة متوقعة في ظلال العاصفة الكبرى التي ضربت الفلسطينيين في تلك السنوات، فالحزب تكونت اولى حلقاته في القدس سنة 1953 أي بعد خمس سنوات من نكبة 48 .

ومن ثم فإن تفكر هذا الفلسطيني المفجوع حول ضياع الارض وتأمله، قاداه الى ان سبب هذه النكبة هو البعد عن تطبيق احكام الاسلام، طبعا ربما تبدو الامور غير مترابطة منطقيا في هذا الجزء من التحليل، لكن هكذا سارت الامور لدى الشيخ النبهاني الذي أورث هذه الفكرة لخليفته الشيخ زلوم وكل التحريريين، ثم ذهب النبهاني أبعد من ذلك وقرر ان سبب عدم تطبيق الاسلام، راجع الى عدم وجود دولة تطبقه وتقوم عليه، دولة تحمي (كل) المسلمين كما كان الشأن مع سلاطين بني عثمان وقبلهم مع الخلفاء الراشدين، اذن فالأمر واضح، لاحل إلا باستعادة الدولة والركوب عليها من اجل بعث (الخلافة = الحلم) من الرماد، وما سوى ذاك ليس الا تفاصيل.

وهنا التحمت نظرة النبهاني او مشاعره، بمشاعر جملة من المسلمين الذين فجعهم الغاء (الامبراطورية) العثمانية 1923، على يد الدولة التركية الحديثة، مؤذنة بنهاية عصر معرفي سياسي جديد ومؤذنة ببداية عهد آخر، لا مكان فيه للدولة الامبراطورية، آخذين في الاعتبار بعد سنوات من ذلك التاريخ سقوط الامبراطوريات الاوروبية، وقبل ذلك ايضا.

لكن لندع هذا الاستعراض التاريخي، ولندع المسببات الموضوعية لنشأة هذا الحزب الغريب في اصراره على التفكير بالخلافة، بنفس الزخم الذي صاحب إلغاء الدولة العثمانية قبل قرابة ثمانين عاما من الآن!

لنتفحص مضمون الهوس العام بالمسألة السياسية، واختزال الازمة كلها في تنصيب الخليفة المسلم ومبايعته، كما كان الشأن مع هارون الرشيد او هشام بن عبد الملك، ولندلف الى ازمة تقبع وراء هذا النوع من التفكير والتحليل.

انها أزمة نفسية تأبى الخروج من عباءة الاب الحامي، وملاقاة الحياة وامواجها بانفراد ودون رعاية ابوية. ثم إنها، وهذا هو المهم، تشير الى نمطية التفكير الخلاصي الملغي لتفاصيل الصورة غير المكترث بالتحولات والتراكمات، والمجمل للحل دوما بكلمة من مثل: الاسلام هو الحل، او القومية العربية... ولا يضر اختلاف المضمون من ديني الى دنيوي بين هذين الشعارين، فنحن في النهاية امام «نمط» تفكير واحد.

لقد انتبه بعض اللامعين من الذين عاصروا هذا الحدث، الغاء الخلافة العثمانية، الى خطورة المتاجرة السياسية بكلمة الخلافة، وتصدى بشجاعة لتحليل المسألة السياسية في الاسلام وكشف طبيعة العلاقة بين السلطة الزمنية، اي الدولة، والسلطة الروحية، اي المؤسسة الدينية، مستخلصا ان «تدبير» السياسة متروك للمسلمين ولم ينص الاسلام على نظام محدد لادارة الشأن السياسي، لا نظام الخلافة ولا نظام الجمهورية، ببساطة لأن ذلك من شأن دنيانا التي نحن أعلم بها.

وبعد ان رجم الشيخ علي عبد الرازق، مؤلف «الاسلام واصول الحكم» معنويا وحورب من الجميع، ها نحن نلجأ الى خلاصاته من جديد، بعدما اذاق الاصوليون المجتمعات الاسلامية حنظل الوهم وجمره، تحت شعار استعادة الخلافة الاسلامية المثالية. وها هو محمد سليم العوا، احد رموز الاسلاميين المصريين المعتدلين يصرح «العلاقة بين الدين والدولة في الاسلام اجتهادية».

لقد سالت دماء كثيرة، وما زالت، من اجل تخليص المسألة السياسية من شبكة الاعتقال الايديولوجي الاصولي، لكن الخيوط ما زالت عالقة، وسلطة الوهم وهيمنته النفسية ما برحت قائمة.

بحيث ان مقاربة هذه المسألة، بشجاعة ووضوح تامين، يكبدان الباحث كلفة عالية. دائما هناك ضجيج وقرع طبول حول الاصوات التي تهمس بعقلانية لإعادة قراءة التاريخ الاسلامي بكل جوانبه، ثم تحليل الفكر السياسي، واستجلاء آفاق اشتغاله الان، كما اشتغل بالامس، هذا الضجيج يحول دون حياة الكلمات، لأن الصخب طاعون التأمل!

فهل صحيح اننا كنا في الغابر تحت حكم مثالي تام، وهل صحيح انه كان هناك فردوس مفقود؟ نعم لقد كنا اقوى، واغنى، والاهم اننا كنا لا نعاني من عقد نفسية جماعية ازاء الغير، بل كنا نتخاطب بنفسية الارستقراطي، كما استنبط نيتشه في كتابه «اصل الاخلاق وفصلها»، الذي صنف العربي والمسلم (تحديدا) من ضمن الشعوب التي تصرفت عبر التاريخ بحسب الاخلاق الارستقراطية، وهي الاخلاق الواثقة من نفسها ذات الخطاب المتمركز على الذات، اخلاقية من يستنار به، دون ان يسعى لأن يكافأ، فيما الحقود هو الذي أثرت عليه الاهانة من دون ان تكون له القدرة على العطاء او على اثبات الذات، وهكذا لم يعد المسلم رجل «نعم» الذي يتألق في العالم ويتفوق بطبيعة كيانه، ومن موقع السيادة تحول المسلم شيئا فشيئا الى رجل «لا» الفاقد للمبادرة والمكتفي بردة الفعل، يراكم الحقد وينتظر الوقت للانتقام. كما يقول بمرارة، وجمال، عبد الوهاب المؤدب في كتابه الرائع (أوهام الاسلام السياسي).

لم يكن تاريخنا ابيض ولا اسود، كان تاريخنا حافلا بكل الالوان، ولم تكن دولنا او «خلافاتنا»، نسبة للخلافة، الا تجسيدا ومرآة لهذا التعدد اللوني. وفي النهاية كان قادة هذه الدول ساسة، يتصرفون من منطلق المصلحة.

وهذا ما يخبرنا به التاريخ حينما شجع الملك الكامل (توفي 1238م) الملك الاوروبي فريدرك الثاني (المتوفى 1250م) على القدوم للشرق لأنه كان يستشعر الخطر من اخيه الملك الاشرف حاكم دمشق.

وللمفارقة فإن هذين الاخوين المتنازعين هما ابناء «الناصر» صلاح الدين الايوبي الذي حارب الصليبيين بكل شجاعة وتصميم.

ما نريد قوله، ان الماضي قد مضى وتولى، وبقينا نحن في هذا الحاضر، وليست صرخات حزب التحرير، ولا وعوده بجنة الخلافة، الا عثرة في الطريق توجه عرباتنا الى الطريق الخطأ...

اننا نريد التفكير بدون ضغط الجرح النازف، حتى لا نتصرف بعصبية نندم عليها، والامم والشعوب قد تصاب بعصبية شاملة لا تقتصر على فرد او افراد محدودين.

ويبدو اننا سنمر بشارع ادجوار رود بعد سنين، او يمر من بعدنا، ليجد نفس هؤلاء الرجال، او من بعدهم، يوزعون لفائف الخلاص ووريقات الوهم..من يدري، فزمننا العربي يتحرك بقانون خاص...!

[email protected]