القراصنة وجنس الحريم

TT

«رجال آخر زمن»، هكذا كانت ستقول جدتي لو علمت بأمر «القراصنة الجدد» الذين يصولون ويجولون في الشبكات الإلكترونية، بحثاً عن امرأة يتصيدون أسرارها، ويكشفون عوراتها، وكأنما ضاقت الدنيا بما رحبت ولم يعد أمامهم سوى «الحريم»، يتطفلون على صغائرهن والكبائر، ويتحايلون عليهن لتسقّط أتفه هفواتهن، طمعاً في الابتزاز والتشهير. ويتبين الآن، أن الزميلة ثريا الشهري لم تكن سوى حلقة في مسلسل خطف صناديق البريد الإلكترونية النسائية، بعد أن فاجأني القرصان نفسه (بحسب اعترافه) بالفعلة ذاتها، ووعدني بالإفراج عن رسائلي الحميمة الأسيرة وبريدي المسروق مقابل التوقف عن نشر صورتي مع مقالتي، وفي حال رفضت العرض السخي لا يبقى أمامه سوى نشر غسيلي على الحبال الإلكترونية. وتساءلت إن كان في بريدي المتواضع أهم مما يمكن أن يعثر عليه قرصاني عند دونالد رامسفيلد، وما الذي تمثله صورة صغيرة لرأس كاتبة مقابل طوفان الصور الإباحية أو العنيفة الذي تجود بها مئات الفضائيات ذات البثّ الكوني. لكن الرجل كان واضحاً وصريحاً:«لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها»، أجابني. وفهمت للتو ان إمكانياته تقف عند حدود العبدة الفقيرة إلى الله، التي لا تجيد غير التدبيج، وتجهل نصب الكمائن للمهاجمين الإلكترونيين. ولو كان الأمر يتعلق فقط بهذا القرصان النبيل الذي قبل مبدأ الحوار، وأعاد البريد، ثم اختطفه مرة أخرى خلال أربع وعشرين ساعة، ثم أعاده من جديد ـ ليختبر ربما ذكائي الإنترنتي الهشّ مقابل عبقريته التكنولوجية الفحولية ـ لما كان لهذه المقالة من مبرر، ولاكتفيت بالتفاوض التلفوني مع الأخ القرصان، الذي لم أفهم لغاية اللحظة إن كان فارساً في الحلبة الجهادية على طريقته، أم غاوي تلصص وتعذيب. لكن الظاهرة تتجاوز امرأة او اثنتين، وما ترويه الزميلات يبشر بفتح من الاختراقات الذكورية الخبيثة للعوالم الأنثوية الشخصية، فحماة الديار والأعراض يتكاثرون بأسرع مما تفعل القطط، وحين عجزوا عن أن ييمموا وجوههم شطر فلسطين، ويشحذوا عضلاتهم لمقاتلة عدوهم اللعين، استقووا على الجنس اللطيف. وهم لا يوفرون صحافية أو مذيعة أو ممثلة قديرة، فكل النساء في عيونهم سواء. وزير النساء الذي يتنزه، حين يريد، في بريد زميلتنا من نشرة «إيلاف» رولا نصر، يوزّع رسائل باسمها في كل اتجاه، تطلب أرقام هواتف شهيرات تلفزيونيات وغيرهنّ مغمورات، بحجة أنها تود مقابلتهن ولا تجد وسيلة للحصول على أرقام هواتفهن. وباسم الزمالة فإن الصحافي لا يضنّ على زميل آخر برقم أو رقمين، لكن ما أن تعود الرسالة الفخ إلى القرصان بالصيد الثمين حتى يفتح على صاحبة الهاتف باب الجحيم، وتصبح زميلتنا رولا هي الجانية بالنيابة عن صاحب المصيدة اللئيم. وبين القراصنة «الجهاديين» الذين يعلنون حسن النوايا ورفاقهم الباحثين عن الغواية تتشابه الأدوات وينتهي الجميع إلى الأذى المجّاني العقيم. فالوقت يتبعثر ـ بدل استثماره ـ في مطاردة النساء، إما من أجل تأديبهن أو طمعاً في مغازلتهن. والواقعات في الكمين، يلجأن بكل بساطه، بعد اهتراء الأعصاب إلى تغيير أرقام هواتفهن، وتحصين أجهزتهن الإلكترونية بأحدث البرامج الدفاعية، فكل باب يأتيك منه الريح سدّه واسترح. وغداً يجد شبابنا الضجر، السئم، باباً آخر للقيل والقال، وتتغير الوسائل دون أن تتبدل بنات الأفكار، وتنجلي الرؤيا وتتسع الآفاق.

إنما تأمل في الصلة الحميمة بين «المصلحين» و«الدون جوانيين» الذكوريين تجد أن علاقتهم بالمرأة تتغذى من نبع فانتازيا الأخيلة المتأججة التي إذا ما أضفت إليها الصورة (فوتوغرافية أو تلفزيونية) حصلت على خلطة ملتهبة كمن يصب الزيت على النار، حينها تثور المشاعر وتخرج من عقالها. فهذا يريد أن يحطم الصورة ويلغيها ليعود إليه الأمان، ويستقر حال أشقائه من الرجال، وذاك يبغي أن يسافر في هلاوسه إلى آخر النفق ولو اضطر للسير في الظلام. والوضع، في هكذا أحوال، لا يمكن أن يستقيم من دون علاقة أرضية وروحية سوية بين الرجال والنساء، واعتراف بآدمية البشري بصرف النظر عن شكله وجنسه ومهنته وما يجول في خاطره. أما المناداة بإلغاء الصورة وتحميلها وزر الرذيلة، فهو من فرط جهل أبناء أمتنا بواقع الحال، وإغراق منهم في اجترار رومانسيات أيام زمان. فقبل أن نفكر بمحو الصورة علينا أن نعثر على كوكب جديد لا تصله التكنولوجيا الحديثة، لكن هل نستطيع أن نصل إلى هذا الكوكب المزعوم من دون استخدام الصورة.

في مطلع الستينات كتب الناقد البنيوي رولان بارت مقالة شهيرة عن «بلاغة الصورة» حلل عبرها، وبمهارة مدهشة، ما تثيره من خوالج في نفس المتفرج صورة إعلانية، كانت معروفة حينها، لماركة معكرونة إيطالية. وبقراءة ما يعنيه الكيس الشبكي المفتوح (في الإعلان)الذي تتدلى منه رزم السباغتي، وما يبتغيه المعلن من إضافة حبة طماطم إلى المشهد ودلالات وجود الفلفل الأحمر الطازج والبصل، وبقية العناصر التي يمر بها المستهلك دون أن يعيرها بالا، تمكن بارت من أن يفتح عيون الناس، بعلمية وموضوعية، على ما يخترق لا وعيهم من تأثيرات مصورة، وكيف يدغدغ المعلنون المحنّكون أوتارهم الحساسة، ونقاط ضعفهم الدفينة. لقد كتب بارت الكثير حول لغة الصور وقدرتها على الإقناع والتغيير، وعلى شاكلته، قبله وبعده، نجد من المهتمين بهذا الموضوع، باللغات الأوروبية الكثير. فهل نجابه كل هذا الوعي العميق والتحليل البديع، بكلمة «ممنوع» أو «مسموح». وما معنى هذه الأوامر والنواهي من شعوب باتت تتسول قوت يومها، ولا تملك من أمرها سوى تشاطر قويها على ضعيفها ورجالها على نسائها، وغنيها على فقيرها.

قال لي قرصاني الذي أسمى نفسه «جواد»، انه مصلح سلمي، وجهاده في سبيل «الفضيلة» لا يتوسل قطع رؤوس ولا سفك دماء، وبذلك فضميره مرتاح. وقد يكون من هذه الناحية محقاً، ولكن أوليس استنزافاً ذاتياً هذا الهدر للطاقات الشابة في مطاردة فلانة وتأديب علاّنة، وما يسبقه من غزل لشباك وتدبير لخطط الإيقاع، ومن ثم الملاحقة والمراقبة وما يستتبعها من شغل بال؟

صدّقني: «ما هكذا يا جواد يمارس الجهاد».

[email protected]