المرجعية الإخوانية السورية: الجلوس الصعب على كرسي الاعتراف

TT

الخطاب السياسي للمرجعيات الاخوانية مفعم بالمبالغات الميلودرامية المعهودة في السينما المصرية القديمة. أفترض في نفسي الغفلة والسذاجة، فأمسك بمنديلي لمنع دموعي كلما قرأت الشيخ حسن البنا أو سمعت مشايخ المرشدية المصرية أو السورية..

خطت السينما المصرية نحو الواقعية في المعالجة، لكن الخطاب السياسي الإخواني ما زال يتعثر في جلباب الدروشة المتزهدة. فهو عُذري اللغة في ادعائه البراءة وتمسحه بـ«المسكنة» المفتعلة، وفي نفيه الدائم لمسؤولية الإخوان عما حدث لهم أو عما تسببوا به للآخرين.

أما أمام أخطاء المسيرة الإخوانية الطويلة التي لا سبيل لإنكارها، فالخطاب الإخواني هنا اعتذاري اللهجة. يكاد ينحني بمرشديه وشيوخه إلى الأرض من فرط التواضع الخجول، وكأنه يطلب منك أنت أيضاً أن تنحني وتتبادل معهم المجاملة والاعتذار على الطريقة اليابانية، ثم تنصرف من دون أن تسأل أو تناقش.

ما دام المشهد السوري حارا وحافلا بالأحداث المتسارعة، فأقصر حديثي ـ لضيق المجال هنا ـ على خطاب المرجعية الإخوانية السورية التي تحاول استقطاب المعارضة واسترضاء النظام. وأذهب رأسا إلى تذكير المرجعية الإخوانية بمحطات ومواقف في مسيرتها التاريخية، لعلها تملك الجرأة على مراجعة الذات قبل إمطار النظام بالاقتراحات والمطالب. ولعلها تجلس على كرسي الاعتراف، مهما كان الجلوس صعبا، لتمارس نقد تجربتها علنا بصراحة وأمانة، بعيدا عن خطاب الدروشة العذري والاعتذاري الذي بات يثير الرثاء، أكثر مما يفيد وينفع في تغذية ذاكرة الجيل السوري الجديد.

بعد المرحلة النضالية ضد الاستعمار التي خلقت انسجاما وطنيا بين أكثر من 18 دينا ومذهبا في المجتمع السوري، بدأ فرز خجول يتراءى اجتماعيا وسياسيا، بعودة شيخ معمم شاب من مصر حاملا معه الدعوة الإخوانية التي تلقاها خلال دراسته في الأزهر.

كان الشيخ مصطفى السباعي (15 ـ 1964) حيوي النشاط، صبوح الوجه، الا عندما ينهمك في خطابه الإثاري والاهتياجي. كنا نحن طلبة الأربعينات نرفض خطابه الإخواني التكفيري للنصارى، وكعادة الإخوان والسلفيين كان يرفض الحوار، وينصرف عنا صامتا وفي نفسه غضب مكتوم.

لم يُحدِث الفرز الإخواني التفكيري خللا كبيرا آنذاك. كانت القوى السياسية والطلابية الفاعلة متسامية فوق الطائفية والمذهبية. لكن دور الإخوان في مقاومة الأمل القومي في الوحدة الذي راود سورية كان عجيبا! أحسب أن الرفض عائد إلى نشدان الحركة الإخوانية منذ ولادتها المصرية لوحدة إسلامية غير متاحة عمليا وواقعيا.

عصر الانفصال (61 ـ 1963) كرس عداء الإخوان السوريين للوحدة القومية. فقد شكلوا الواجهة الشعبية في ذلك العهد ضد الشارع الناصري، وضد محاولة العسكر الانقلابيين إعادة الوحدة مع مصر، وتحالفوا في مجلس النواب مع القوى الإقطاعية والعشيرية لضرب أهم إنجاز للوحدة: الإصلاح الزراعي الذي استفاد منه عشرات ألوف الفلاحين المعدمين.

الصراع بين القوى القومية بعد إطاحتها بنظام الانفصال أتاح الفرصة للمرجعية الإخوانية لتمكين حلفها مع القوى الدينية التقليدية والمحافظة، والانتقال من المرحلة السلمية السياسية إلى التدرب على السلاح.

وهكذا، مرت المرجعية الإخوانية منذ بداية السبعينات في عدة مراحل وتحولات خطيرة، كان من أفدح نتائجها، في رؤيتي، القضاء على الأمل في استعادة الديمقراطية، وألجأت النظام إلى الاحتماء بقاعدته، بعد انفتاحه الأولي على كل القوى السياسية والدينية، بما فيها الإخوان.

المرحلة التكفيرية (72 ـ 1976) سجلت زندقة الإخوان للنظام، بحجة تشريعه دستورا «علمانيا» وتنصيبه رئيسا غير سني. تلتها المرحلة الاستئصالية (76 ـ 1982). راحت أُطُر الإخوان تغتال أطر النظام تحت شعار ديني. ولم يكن الاغتيال فاعلا، لعدم القدرة على الوصول إلى القيادات العليا المدنية والعسكرية، فيما كان الرد الرسمي قويا وحاسما وصل ذروته في معركة حماه (1982).

لا أفصل معركة حماه عن ظروفها السياسية والإقليمية فقد اختار الاخوان توقيتا مناسبا تزامن مع الغزو الاسرائيلي للبنان. ودشنوا معركة حماه، فيما كانت قوات النظام تخوض معركة صعبة عبر الحدود في البقاع المجاور مع «القوات اللبنانية» المدعومة اسرائيليا.

أسرع النظام إلى حسم المعركة بقوة لا تضاهى، في مقابل عنف إخواني لا يرحم. تمكن النظام من تصفية المرحلة الاستئصالية الإخوانية التي ارتكبت أخطاء كثيرة: الرهان على عصيان مدني لم يحدث، لأن الأغلبية السنية المتعاطفة مع الإخوان كانت ضد عنفهم. دبابات صدام التي وُعدوا بها عبر الصحراء لم تصل قط. مع ذلك، لم يتخل الإخوان عن حلفهم أو تعاطفهم معه. كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. لقد أعلنوا أنهم يحاربون الطبقة الحاكمة، فإذا بهم يجدون أنفسهم في حضن «دكتاتورية عراقية» أعتى وأشد! وحتى المراقب العام البيانوني حرص على زيارة عدي صدام حسين للتهنئة بسلامة النجاة من محاولة الاغتيال!

الهزيمة الساحقة في حماه دشنت مرحلة الانقسام في المرجعية الإخوانية. انقسمت المرجعية إلى ثلاث مرجعيات:

مرجعية عدنان عقلة التي هادنت النظام. مرجعية عدنان سعد الدين التي والت صدام. مرجعية الراحل عبد الفتاح أبو غده ثم خليفته علي صدر الدين البيانوني الذي يتخذ من لندن حاليا مقرا لمرجعيته.

أعتقد أن جناح البيانوني هو الأحرى بالجلوس على كرسي الاعتراف ومراجعة التجربة. فهو الجناح الأكبر والأهم، ثم لأنه هو الذي يرفع شعار «مؤانسة» النظام واستقطاب المعارضة. لقد نجح البيانوني في عقد «ميثاق شرف» مع أحزاب المعارضة السياسية في عام 2002، مقدما تنازلات نظرية وتكتيكية، كتبني الديمقراطية والتعددية وتبادل السلطة عبر الاقتراع الحر. غفلة حلفائه الذين هُرعوا الى التعاقد معه مكتفين بعناوين خطابه السياسي، هي التي حالت دون الحصول منه على ضمانات أكيدة للإيمان بالديمقراطية، وممارستها وفق أصولها.

أسئلة بحاجة إلى أجوبة: أية ديمقراطية إخوانية تُربط فورا بالحل الإخواني الذي يوصف بأنه «إسلامي»؟ هل سأل الحلفاء المرجعية عن تفاصيل ديمقراطيتها؟ كيف يمارس الإخوان العمل السياسي إذا ما قامت ديمقراطية في سورية؟ هل يعودون إلى استغلال المسجد وإثارة الشارع؟ هل يمارسون التدخل في الحياة اليومية والخاصة؟ ما هو الموقف من المرأة، من النقابة، من التعليم والثقافة والفن والرياضة والتلفزيون والسينما؟ هل قدموا ضمانات للقوى السياسية غير الدينية وللأقليات المذهبية وعدم منعها من العمل السياسي؟ هذه كلها عناوين رئيسية لأية تعددية سياسية أو حرية اجتماعية في الدولة الحديثة.

من «البازار» العشوائي مع المعارضة إلى الحوار الاعتباطي مع النظام. لقد رأت المرجعيات الإخوانية في العالم العربي، في المبادرة الأميركية «الإصلاحية» فرصة للإلحاح على الأنظمة للدخول في حوار ينتهي بالسماح، مثلا، لها في العودة إلى سورية، وممارسة نشاطها كحزب سياسي، أو على الأقل، كجمعية «خيرية» تخترق المجتمع بالخدمات السهلة. وهي ترغب في العودة لتكون حاضرة ومتأهبة في الداخل عندما يحدث التغيير «المنشود» في البال والخاطر.

النظام من جانبه ما زال متمسكا منذ بدء المفاوضات (1980) والوساطة الإخوانية الأردنية في التسعينات، بعودة الإخوان فرادى، ومن البوابة الأمنية، وتقديم اعتذار وندم وتوبة، في مقابل عفو عام لا يسمح بحزب ديني. مع ذلك، فالنظام الراغب في عودة الإخوان على هذا الأساس، يريد أن يستكمل بهم استقطابه للقوس الديني في المنطقة، باستثناء «الأفغان». هذه التحولات والمستجدات كلها لم تحل دون استمرار المرجعية الإخوانية السورية في دروشة خطابها السياسي، ورفض الجلوس على كرسي الاعتراف. أنا بدوري أمارس الدروشة، وأنحني لأهمس في أذن المرجعية المتدروشة، بأن مراجعة الذات ونقد التجربة هما السبيل الحقيقي لكسب ثقة الجيل السوري الجديد، ولئلا يكون حلفها مع المعارضة انتهازيا ومرحليا.