الحالة العرفاتية.. بقليل من الصراحة والشجاعة

TT

الفشل بالنسبة لياسر عرفات، الذي يعد الخيميائي السياسي لعصرنا، هو مادة أولية. فلخمسة عقود ظل عرفات يسقط إلى أعلى، مزوقا الهزائم والحسابات الخاطئة، محولا إياها إلى مجد شخصي وإلى ثروات وتحكم استبدادي.

والى ذلك تمت مساعدة الزعيم الفلسطيني من قبل عدة منظمات دولية، ومن قبل سياسيين أوروبيين، ولفترة قصيرة من قبل، حتى الحكومة الإسرائيلية. والآن تخلت كل هذه الأطراف عنه، بل وحتى الشعب الفلسطيني ، دافعين إياه إلى العزلة والعجز داخل مجمعه في رام الله، حيث ظل قابعا هناك بعد صدور قرار إسرائيلي ضده قبل عامين.

وبدلا من تحقيق الاستشهاد السريع الذي توقعه الكثيرون، أو تخوفوا منه، فقد عرفات في بقائه داخل مجمع رام الله الهيبة التي كان يتمتع بها بين الفلسطينيين، فيما راح الشباب منهم في المقابل يعلنون عن ترحيبهم باختفائه التدريجي عن طريق دخولهم في صراع مفتوح على السلطة في قطاع غزة.

كذلك تجنب المسؤولون الأميركيون والأوروبيون، الذين زاروا المنطقة، الالتقاء به، وهم ضامنون بعدم وقوع نقد لهم في بلدانهم نتيجة لعدم الانغماس مع الرجل الذي ينظر إليه من قبل الرأي العام العالمي بأنه المسؤول عن فشل مؤتمر كامب ديفيد للسلم عام 2000 وعن الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت بعد فترة قصيرة من انتهاء المؤتمر.

شلل السلطة الفلسطينية أصبح واضحا تماما مع استمرار الوعود التي تقطعها القيادة لإنهاء الفساد . وأصبح العنف غير مجد وراح يجلب الفوضى المتصاعدة باستمرار داخل الأراضي الفلسطينية. ولم تأت هذه الكلمات على لسان إسرائيلي دعائي ، بل هي مقتطفة من خطاب الداهية الدبلوماسي النرويجي تيري رود لارسون الذي يشغل منصب مبعوث للأمم المتحدة في الشرق الأوسط ، والصديق الطويل الأمد للفلسطينيين. وكان لارسون قد ألقى هذا الخطاب الساحر يوم 13 يوليو.

كان عرفات في الماضي قادرا على تحويل فشله كقائد إلى نجاح بصفته رمزا، مثلما لاحظ دينس روس في كتابه الجديد، «السلام المفقود». لكن بعد أن حقق سلاما سطحيا مع إسرائيل عام 1993 واستفاد منه، شرع عرفات في تخريب حتى ذلك الترتيب ، فلم يعد يمثل الثورة الوطنية أو معاناة الفلسطينيين وتضحياتهم. ويقدم روس ، الذي كان مهندس العملية السلمية في الشرق الأوسط خلال فترتي رئاسة بوش الأب وكلينتون، في كتابه تفاصيل مقنعة للشروط التي عرضت على عرفات في كامب ديفيد وما بعدها، والرفض الفلسطيني لقبول تلك الشروط أو حسبما يستنتج روس أي شروط على الإطلاق. فهو كرمز لا يمكنه أن يتخلى عن الأساطير الفلسطينية.

لكن روس لا يتورع في نقد الإسرائيليين الذين تصرفوا وكأن كل القرارات يجب أن تتخذ وفقا لاحتياجاتهم، لا وفقا لاحتياجات محتملة للفلسطينيين أو ردود أفعالهم. وفي الأسابيع الأخيرة تلاشت العمليات الانتحارية ضد الإسرائيليين، لكن القتال الفلسطيني ـ الفلسطيني اندلع عبر كل الأراضي المحتلة. وذلك العنف الداخلي هو الذي حرص رود لارسن على تحذيره المخيف من خطر انهيار حقيقي، وطرح، حتى بالنسبة للمتحمسين لعرفات، ذلك الإفلاس الأخلاقي والسياسي الذي عرفته أيامه الأخيرة.

الى ذلك، وعلى مستوى ما، استطاع خصم عرفات القديم شارون أن يفوقه في الحيلة والخداع، إذ تعلم الأخير كيف يلجم ميله المتوجه إلى الكيمياء المعاكسة، عن طريق المبالغة في اللعب بطريقة نظيفة. فشارون استخدم مقترحه للانسحاب الانفرادي من قطاع غزة خلال عام من الآن، وهذا ما جعله يكسب مديح مرشحي الرئاسة الأميركية جورج بوش وجون كيري ، ويكبت رد الفعل في أوروبا للمؤشرات الأخيرة، بأن إسرائيل ستبني 600 وحدة سكنية أخرى للمستوطنين في الضفة الغربية بالقرب من القدس.

من هنا، ففشل عرفات المتكرر ، ونكثه بالوعود، برر لإدارة بوش التعامل معه، وهو أسلوب أظن أن كيري سيواصله إذا ما تم انتخابه ، ليصبح من الصعب المحاججة ، مع النجاح المباشر الذي حققه شارون ، في امكانية دفن عرفات حيا في رام الله.

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»