النظام الديمقراطي ولعبة السيطرة

TT

ثمة وجهة غالبة على القطاع الأوسع من المثقفين والنشطاء السياسيين العرب تميل إلى تقديم صورة مثالية وحالمة للنظام الديمقراطي لا علاقة لها بما يجرى على أرض الواقع، من ذلك ما يحكم اللعبة الديمقراطية من آليات تحكم وتضليل خفي ومعلن، وكأن النظام الديمقراطي بموجب هذه الرؤية ليس إلا تعبيرا وفيا عن المدونة الحقوقية والسياسية التي بشر بها مفكرو وفلاسفة الأنوار، وليس نظاما سياسيا لإدارة شؤون البشر بلحمهم وعظمهم وما يشقهم من نزاع واستقطاب مصالح، فضلا عن كونه تعبيرا عن توازنات وتسويات بين مختلف القوى المتصارعة على الأرض، ولسوء حظنا نحن العرب اننا لا نواكب حتى ما يجري داخل أوساط الفكر والأكاديميا الغربيين نفسهما من مراجعات نقدية للتراث الليبرالي بسبب الوعي بمحدودية رؤية «الآباء المؤسسين».

النظام الديمقراطي على ما يذكر كارل شميت مثلا أحد أهم المفكرين السياسيين الألمان، (رغم سمعته السيئة الصيت بسبب علاقته المعروفة بالنظام النازي)، ليس مجرد مدونة نظرية قوامها الفردية الحرة والحقوق المدنية، بل هو أولا وقبل كل شيء حدث تاريخي تمازجت فيه قيم التحررية السياسية والحقوقية بألوان من التوسع الاستعماري الاستيطاني، وبآليات واسعة من السيطرة والإخضاع والاستغلال الداخلي، ويضيف المفكر الألماني: أن النظام الليبرالي الديمقراطي ما كان له أن يشتغل بنجاعة لولا تركيز الدولة قوة قاهرة وعليا سواء للجم منازعيها في الداخل، أو لشن الحروب والتوسع في الخارج، فالدولة الحديثة على ما يقول شميت تتأسس في جوهرها على مطلب السيادة الكاملة والشاملة التي هي عند التمحيص عبارة عن لاهوت مسيحي معلمن على ما يذكر المفكر الألماني، وهذه السيادة تتطلب بدورها إصدار قرارات مطلقة لا تحيل إلا لنفسها، بما يشبه المعجزة الخارقة في الفكر المسيحي التي لا تكتسب دلالتها إلا بالإحالة إلى ذاتها على ما يقول شميت.

فالسياسي عند شميت يتطابق في الدولة القومية، وهذه الأخيرة لا معنى لها من دون إقامة خطوط التمايز بين الصديق والعدو، ولا يستنكف شميت القول بأن عالما تنتفي منه إمكانيات الحرب والمقاتلة هو عالم بلا سياسة أصلا، أي عالم خيالي لا وجود له على أرض الواقع، وهكذا ينتهي شميت إلى فك العلاقة الاعتباطية المزعومة بين الليبرالية والديمقراطية مؤكدا على أن السياسي هو في جوهره حقل للتدافع والمنازعة، وليس مجرد فضاء لتجسد الفضائل الأخلاقية والإنسانية على ما يقول الليبراليون، ويخلص شميت في نهاية الأمر إلى القول بأن عنصر الجدة والإضافة في النظام السياسي الحديث انما يكمن في قيامه على آلية المساومة والوفاق بين مختلف القوى المتنازعة لا فيما يدعيه من إدعاءات حقوقية وسياسية، الأمر الذي يجعل من الحلول التي يخلص إليها هذا النظام حلولا مؤقتة ونسبية وليست حلولا نهائية ودائمة، وبغض النظر عن مدى مقادير الصحة والخطأ في قراءة شميت إلا أنه كان لها فضل تحويل مجرى الاهتمام السياسي من الحقوق الفردية ( كالحقوق السياسية والاقتصادية)، على نحو ما يركز الليبراليون غالبا، إلى مجال العلاقات السياسية المركبة وما يسكنها من استقطاب وصراعات دامية، فضلا عن فك العلاقة المزعومة بين الديمقراطي والليبرالي، بما يجعل من الفكرة الديمقراطية انفتاحا على امكانيات متعددة ليست الليبرالية إلا واحدا منها.

وقد نهج المؤرخ والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو على ذات المنوال منقبا عن آليات العنف والسيطرة التي لازمت نشأة النظام الليرالي الغربي، وذلك من خلال قراءة هذا النظام بعيون الباحث المنقب والمؤرخ الممحص بدل الاكتفاء بقراءة نصوص الفلاسفة والحقوقيين الليبراليين، فعصر الأنوار على ما يقول فوكو لم يبتدع ثقافة الحرية وحقوق الإنسان فقط، بل ابتدع في ذات الوقت نظام السجن والرقابة، ووسع من آليات الضبط والردع العقابي، ولعل الإضافة النوعية التي قدمها فوكو تتمثل في الانتقال بالموضوع السياسي من القياسات المنطقية والمطارحات القانونية الصورية إلى مجال الحرب، ولذلك فإن المتابع لقاموسه الاصطلاحي يلحظ تردد مفاهيم مفاتيح مثل التكتيك ـ الاستراتيجيا ـ الكتيبة ـ الثكنة ـ وما شابه ذلك.

أهمية هذه القراءة التي تبناها كل من شميت وفوكو والتي فصلنا بعضا من معالمها آنفا إنما تكمن في توجيه النظر إلى زوايا مغيبة من خطابنا العربي والإسلامي في فهم النظام الليبرالي الغربي الحديث، خاصة ما يسكنه من قوى تضليل وتحكم خفي ومعلن، وربما يعود ذلك إلى منزعنا المثالي في قراءة الديمقراطيات الغربية عبر نصوص بعض الحقوقيين والفلاسفة الأنواريين على نحو ما نقلتها إلينا حركة الترجمة الانتقائية والمتعثرة، أو على نحو ما تمثلها الجيل الأول من الإصلاحيين الذين بهرتهم مساحات الحرية في العواصم الأوروبية التي استقروا فيها بعض الوقت، او بسبب الوسطاء السطحيين الذين يقدمون إلينا أنفسهم بأنهم أصحاب المعرفة والدراية بشؤون الحداثة والحداثيين، أو ربما لعملية التضليل الناتجة عن الصورة التي كانت وما زالت الديمقراطيات الغربية تقدم لنا من خلالها نفسها من روبسيس بيار إلى بوش وبلير اليوم بأنها نظام الحرية والتحرر في مواجهة الأشرار والطغاة.

النظام الديمقراطي ليس نظاما شفافا تنعكس فيه الإرادة العامة للمواطنين على نحو ما يصور ذلك كثير من الليبراليين، بل كثيرا ما يكون هذا النظام تعبيرا عن مصالح النخبة السياسية المدربة على فنون المخاتلة والخداع، وعلى أساليب الخطابة والتلاعب اللغوي واستجابة لمصالح الأقوياء من دوائر النفوذ المالي والإعلامي والاستخباري وغيرها أكثر مما هو تعبير عن إرادة أو مصالح الناخبين، إذ أن النحبة السياسية غالبا ما تتخذ قراراتها بناء على تقدير المصالح الاستراتيجية وعلى حساباتها الخاصة ثم تعمل لاحقا على التحكم في اتجاهات الرأي العام عبر لعبة «الاقناع » و«التواصل» مع المواطنين، وليس هنالك ما هو أبلغ من خيار الحرب ضد العراق الذي انخرطت فيه بعض الديمقراطيات الغربية إلى جانب القوة الأميركية، كما هو شأن بريطانيا واسبانيا وايطاليا رغم المعارضة الواسعة الذي قوبل به هذا القرار من طرف مواطنيها والتي تفوق الثمانين بالمائة في بعض الحالات، والسبب عندي يعود إلى كون السياسات الخارجية بما في ذلك مسألة شن الحروب من عدمه مسألة تتعلق بالمصالح القومية كما تقدرها النخب السياسية والعسكرية والاستخبارية ودوائر المصالح الكبرى، ولا علاقة لها بالرأي العام، فلا أحد يزعم اليوم أن بوش الإبن وفريقه اليميني يعبر عن إرادة الناخب الأميركي بقدر ما يعبر عن مصالح شركات النفط ولوبيات السلاح والتصنيع والمجموعات السياسية الموالية للدولة العبرية.

النظام الديمقراطي ولد مسكونا منذ بواكيره بمحاولة المواءمة بين مقولة الحرية الداخلية وقيمة السيطرة والمصلحة والمجد القوميين في الخارج. ولذلك لم يكن مستغربا أن يتزاوج النظام الديمقراطي الغربي بانتخاباته وبرلماناته وصحافته الحرة بلعبة التوسع الاستعماري الخارجي، لان صلاحية النظام الديمقراطي تقف عند حدود «المواطن» الحر والرشيد داخل الحدود القومية للدولة، كما لم يكن مستغربا أن يكون كبار المنظرين والمنافحين عن القيم الليبرالية الديمقراطية أمثال ألكسيس دي توكفيل وجون ستوارت ميل وغيرهما من كبار المدافعين عن التوسع الإمبريالي دفاعا عن المجد القومي في نفس الوقت. ولكن ما ذكرناه آنفا لا يعني نفي مساحة التمايز والاختلاف بين النظام الديمقراطي والأنظمة الشمولية والدكتاتورية بإطلاق.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية بجامعة وستمنستر لندن