هذا هو (النموذج): جاءوا ليُفْرِحوا الشعب العراقي فزادوا أحزانه

TT

«على الولايات المتحدة: ان تصغي للأصوات التي لا تعادي أمريكا ـ ككل وباطلاق ـ ، ولا تتردد ـ قط ـ في الوقت نفسه، في تحسين ما هو حسن في امريكا، وتقبيح ما هو قبيح».. هذه عبارة وردت في مقال الاسبوع الماضي الذي تحرينا فيه العدالة في النظرة الى الامريكيين، والتعامل معهم ـ كشعب وأمة ـ وبمنطق العدالة ذاتها، كتب هذا المقال الماثل.

اذا استمرت السياسة الامريكية الخارجية على هذه الحال، فمن المؤكد أنها ستقود العالم الى جحيم أمني وسياسي واجتماعي يتلظى فيه الناس جميعا، وان بدرجات متفاوتة.

والمثل أو الدليل الحي الواقعي ـ الملموس والمشهود ـ هو: سياسة مكافحة الارهاب. فقد أدت هذه السياسة الى مضاعفة الارهاب: حجما ونوعا ورقعة في العالم كله تقريبا.. وهذه شهادة قيادي مخضرم في الـCIA وهو صاحب كتاب (الغرور الامبراطوري).. يقول هذا الرجل الذي لا تنقصه المعلومة الصحيحة الموثقة، ولا الأمانة الوطنية، ولا الاطلاع على تفاصيل الحراك الخارجي للولايات المتحدة. يقول: «ان هزيمة الولايات المتحدة في الحرب على الارهاب مؤكدة إذا لم تغير سياستها الخارجية المنحازة الى اسرائيل.. إن حربنا على العراق ستؤخر حربنا على (القاعدة).. وفيما تصر قيادتنا على ما تسميه انتصارا، تعمد القوات الامريكية والسياسة الحالية الى نشر التطرف في العالم الاسلامي على نحو فشل أسامة بن لادن في تحقيقه منذ 1990. وإني اعتقد ان السياسة الامريكية الحالية هي حليف بن لادن رقم واحد».

ومتى حصل توسيع نطاق الارهاب بموجب هذه السياسة المتخبطة؟.. حصل في ذات الزمن الذي كانت فيه الأولوية المطلقة للسياسة الامريكية الخارجية هي مكافحة الارهاب.. وقد تعجل تقرير اصدرته وزارة الخارجية الامريكية منذ قليل، فزعم: ان موجات الارهاب قد تراجعت في السنتين الأخيرتين «!!» ولكن الوزارة أفاقت بسرعة واعتذرت عن نشر هذه المعلومة التي يبطلها الواقع.

فهل حدث استدراك للأخطاء، وعدول عنها: متمثل في رؤية جديدة اعقل وانفع لأمريكا وللعالم؟.. لا.. ليس يبدو شيء من هذا الاستدراك والتصحيح، على الرغم من كثرة الأصوات الامريكية الناقدة والناصحة: مثل: تقرير الكونجرس ـ الخاص بالتحقيق في احداث 11 سبتمبر ـ الذي انتهى الى توصية تقول: «يجب على الولايات المتحدة ان تنتهج سياسة افضل مع العالم الاسلامي».. ومثل تقرير النائب (جيمس ليتش) رئيس اللجنة الفرعية لشؤون آسيا في لجنة العلاقات الدولية التابعة لمجلس النواب، فقد خلص هذا التقرير الى هذه النتيجة: «ينبغي على الولايات المتحدة ان تتجه نحو تحقيق التوافق مع العالم الاسلامي، فانه لو تمزقت العلاقات الامريكية الاسلامية فان هذا سيكون كارثة كبرى ذات عواقب تاريخية».

نعم. لم يحصل تصحيح للأخطاء القاتلة على الرغم من الدعوات الامريكية المتزايدة الى التصحيح الناجز، لا المسوّف.

وأحدث بدعة، أو اقرب دليل على الاستمرار في العمل الاستراتيجي والسياسي: المشروع الجنوني الذي طرحه الرجل إياه (بول وولفيتز) نائب وزير الدفاع الامريكي.. ما هذا المشروع؟.. خلاصته: ان تعمد امريكا الى انشاء (ماليشيات محلية) مسلحة في بلدان العالم!!. تتولى مكافحة الارهاب في مواقعه، على ان تقوم امريكا بتمويل هذه الماليشيات وتدريبها وإمدادها بالسلاح.. وقد سميت هذه (القوى المحلية التابعة لأمريكا في بلدان مستقلة ذات سيادة)!! سميت بـ(الماليشيات الصديقة)!!. والمشروع ليس مجرد سيناريو خيالي، بل هو مشروع تبنته وزارة الدفاع. وخصصت له ميزاينة بلغت 500 مليون دولار، طولب الكونجرس باعتمادها.

والمفهوم العملي التطبيقي لهذا المشروع: ان يكون لامريكا (وجود عسكري شعبي مسلح) في بلدان العالم، أي يكون لها ليس قواعد نفوذ فكرية وسياسية واعلامية فحسب، بل يكون لها ـ كذلك (قواعد نفوذ عسكرية) تتلقى دعمها، وتأتمر بأمرها.

وهذا مشروع خطر. بل مجنون ومغرور: يلغى السيادة الوطنية للدول.. ويكون (خميرة) لحروب اهلية.. وعمادا لـ(انقلابات شعبية مسلحة) ـ كبديل للانقلابات العسكرية التقليدية ـ .. وقد تكون هذه الانقلابات الشعبية المسلحة سندا ماديا: يعين (الاصلاحيين) على الوصول الى السلطة والحكم.. طبعا بالمفهوم الأمريكي للاصلاح والاصلاحيين.

وخطيئة (العصابات المسلحة): التابعة للبنتاجون، في بلدان العالم: تبعية ولاء.. وتمويل.. وتدريب.. وتسليح.. وتلق للأوامر.. هذه الخطيئة تندرج في سلسلة خطايا عديدة لا تكاد تحصر:

1 ـ خطيئة كذبة اسلحة الدمار الشامل في العراق، وهي الكذبة التي اتخذت سببا وذريعة للحرب.. واي خطيئة أعظم ـ في دنيا الاستراتيجية والسياسة ـ من خطيئة تحريك جيوش ضخمة.. ومحاولة اقناع مجالس نيابية موسعة.. ومحاولة اقناع رأي عام هائل.. وانفاق عشرات المليارات من الدولارات: فعل ذلك كله على أساس كذبة!

2 ـ خطيئة كذبة العلاقة بين الرئيس العراقي الهالك وبين تنظيم (القاعدة).. ومن ناحية الامكانية العقلانية، واسلوب الانتهازية السياسية لدى الطرفين: لا تُستبعد هذه العلاقة. بيد انه من حيث الواقع لم تكن هناك علاقة. وهذا النفي هو ما توصلت اليه تحقيقات ووثائق امريكية كثيرة.

3 ـ خطيئة (ابتذال) حقوق الانسان عن طريق: نقض ما يقوله الانسان: بالفعل والسلوك. وأبرز مثال مجسد لهذا النقض: ما جرى في سجن ابو غريب من تعذيب للانسان، وإهانة له، وحط من كرامته، ولعب ولهو بآدميته وإنسانيته.

4 ـ خطيئة (تقليد) صدام حسين في اساليبه. فقد كان الطاغية المستبد يستخدم هذه الأساليب ـ على سبيل المثال ـ : اسلوب قمع أي حراك شعبي بالمدافع والدبابات.. واسلوب ممارسة اقصى صور القسوة بحجة المحافظة على الأمن.. واسلوب معالجة الأزمات بالقوة وحدها.. واسلوب استباحة كل شيء في سبيل الهدف: وهذه كلها اساليب لا تستغرب من الفاعل الغابر، ولكنها تستغرب ـ بالتأكيد ـ إذا مارسها الذين قالوا: انهم جاءوا لتخليص الشعب العراقي من اساليب القمع والقسوة والقهر والإذلال.. والغرابة الأشد تتمثل في ان (خلاص) الشعب العراقي من جلاديه: اصبح هو الحجة الوحيدة (اليتيمة) للغزو والاحتلال بعد تهافت وسقوط مقولات: اسلحة الدمار الشامل، والعلاقة بالقاعدة.

5 ـ ولسنا ندري هل هناك (برنامج إرادي) معين ترتكب بمقتضاه الأخطاء ـ تباعا ـ حتى في نطاق التفاصيل.. مثلا: لماذا الإصرار على استقدام قوات منغولية للمشاركة في احتلال العراق؟.. فالتاريخ العراقي مثقل بالذكريات المكروهة جدا في هذا المجال، منذ ان غزا هولاكو بغداد عام 1258 وقتل نحو مليون مسلم، ونهب بغداد واستباحها.

6 ـ خطيئة (الاسقاط الأدبي) للحكومة المؤقتة باظهار ان امريكا هي سيدة كل شيء في العراق. وان الحكومة العراقية ونقل السيادة ليس إلا تغطية للفشل الامريكي والممارسات الامريكية ـ وفق تعبير وزير خارجية اسبانيا ـ .. وكان العقل يقتضي غير ذلك، بمعنى ان يتاح للحكومة المؤقتة من الصلاحيات ما يجمل وجهها ويرفع نسبة مصداقيتها لدى الشعب العراقي.

نحن لا ننحاز الى أي تيار سياسي في العراق، وإنما ننظر الى المسرح العراقي كله: كوطن سيد أو ينبغي ان يكون سيدا، وكشعب عظيم في التاريخ والحاضر والمستقبل.. وبهذا المنظور نقول: لنفترض ان القوات الامريكية استطاعت سحق فئة من الشعب العراقي، فهل ستنتهي الأزمة بهذا السحق؟.. نأمل ألا يدخل التقدير الامريكي لهذه القضية في سلسلة الخطايا المدمرة.. فالمقدمات الخاطئة تقود الى نتائج خاطئة.. هذه قاعدة علمية تحكم العمليات الحسابية، والتفكير المنطقي.. وتحكم الاستراتيجيات والسياسات ايضا ـ يقولون: ان السياسة (لعبة). وبافتراض صحة هذا التعبير، فإن اللاعب ينبغي ان يكون ماهرا لا أخرق، وإلا فالحال كما يقول شاعر ينتقد فريقه الخائب:

إذا ما صوّبوا كرة يمينا

لخيبة حظهم طلعت شمالا