الحالة العراقية.. سقوط الآيديولوجيا ودوار أم المعارك

TT

عجيب أمر البشر! مستحيل ان يتقدموا خطوة واحدة الى الامام بدون ان يدفعوا الثمن دماً ودموعاً، كنا نتمنى لو ان التقدم يحصل بهدوء وسلام وبدون اراقة قطرة دم واحدة، لكن احداث العراق، الذي اصبح الآن مختبر كل العرب، تعيدنا الى الحقيقة المرة، ولا بد دون الشهد من إبر النحل.. لا يمكن ان تفصح الاشياء عن ذاتها، لا يمكن ان يستبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، لا يمكن ان ينبثق طريق المستقبل ناصعا جليا إلا بعد ان يشبع التاريخ عنفا وقتلا وانفجارا.

هذه هي فلسفة التاريخ التي انطلق منها لفهم احداث العراق وغير العراق.

منذ عام او اكثر وهي الفلسفة التي علمنا اياها هيغل عندما قال عبارته الشهيرة التي حيرت الشرَّاح والمفسرين: كل ما هو واقعي عقلاني.. بمعنى آخر فان كل ما هو موجود في الواقع له تبريره والا لما وجد. بهذا المعنى فان وجود اشخاص من نوعية بن لادن او الزرقاوي او مقتدى الصدر، شيء ضروري لكي ينكشف سر التاريخ والمرض العضال. فالتاريخ لا يتقدم احيانا الا من ابوابه الخلفية او حتى من اسوأ ابوابه. ولذلك فلا ينبغي ان نفهم ما يجري في العراق وكأنه خراب او دمار او نهاية التاريخ. لا ينبغي ان نرى فيه الجانب السلبي فقط، فوراء الاشياء ما وراءها.

فالواقع ان التاريخ ابتدأ الآن في العراق او قل ابتدأت جدلية التاريخ. والمرحلة الفوضوية الحالية ضرورية واجبارية من اجل التوصل الى ما بعدها، اي الى شاطئ الامان ان شاء الله. لكن متى؟ هذا هو السؤال..

هناك تسريع لحركة التاريخ في العراق الآن بفعل عوامل خارجية وداخلية واذا كانت آلام الشعب العراقي سوف تؤدي في نهاية المطاف الى تفكيك الآيديولوجيا العربية بكل انغلاقاتها والعنف المخزون في احشائها فانها لن تذهب سدى. اذا ما أدت الى تفكيك اليقينيات العدوانية التي تهيمن على عقولنا منذ مئات السنين فانها ستقدم خدمة كبيرة لكل العرب والمسلمين. فالمعركة الجارية حاليا تخص كل العرب وليس فقط العراقيين الذين يدفعون ثمنها نيابة عنا جميعا. انها ذات المعركة التي جرت في اوروبا اثناء انبثاق الحداثة بكل نزعتها الانسانية وعقليتها العلمية والفلسفية. فهناك ايضا كان التخلص من غياهب الماضي والاصولية المسيحية امرا مرعبا، معقدا، صعبا. هناك ايضا كان القضاء على اخطبوط الماضي بكل تراكماته ورواسبه الطائفية والمذهبية.

عملية هائلة استغرقت عدة قرون من السنين، لذلك فاني اكاد اضحك، بل واستغرق في الضحك، عندما اسمع المثقفين السطحيين من عرب وفرنسيين يتحدثون عن فشل الديمقراطية في العراق! لكأن احداث التاريخ الكبرى تقاس بسنة او سنتين او ثلاث سنوات! نعم ان الطريق العربي والاسلامي نحو الديمقراطية والحرية طويل وصعب ومحفوف بالمخاطر. ولا يمكن له ان ينجح او يصبح سالكا الا بعد تفكيك القديم الراسخ رسوخ الجبال: اي تفكيك عقلية بن لادن والزرقاوي ومقتدى الصدر وملايين الآخرين. هذا هو الرهان الاكبر لما يجري في العراق وفي غير العراق من ارض العرب والاسلام. ما يحدث الآن هو زلزال واقعي لا يقابله اي زلزال فكري في الثقافة العربية المعاصرة. وبالتالي فالواقع متقدم على الفكر كثيرا في العالم العربي، بل ان الواقع في جهة والآيديولوجيا العربية التي تحكمت برقابنا منذ خمسين سنة في جهة اخرى.

لكن هذه الآيديولوجيا المحتضرة او التي هي في طريق الاحتضار، لا تزال تشكل عقبة كأداء في وجه حركة التاريخ التي تريد ان تنطلق، ان تتقدم بصعوبة كبيرة وألم مرير، فالمحافظون في العالم العربي، سواء أكانوا قدامى أم جددا، يحاولون ايقاف حركة التاريخ او عرقلتها عن طريق طرح الشعار التالي: ثوابت الأمة. ممنوع المس بثوابت الأمة!! والمقصود بها بالطبع اليقينيات المطلقة والعدوانية للآيديولوجيا القومجية والآيديولوجيا الاصولية. ولكن ماذا تبقى لنا لكي نفكر فيه؟ وعن اي شيء سنتحدث اذا كانت هذه الثوابت تملأ الســاحة وتسد الأفق؟ نحن نمشي في ارض ملغــومة. في كــل خطوة نخطوها قد نصطدم بأحد ثوابت الأمة، أي بأحد الألغـــام. واذا كانت ثوابت الأمة تتجسد في شخصيات من نوعية بن لادن والزرقاوي ومقتدى الصدر فعلى هذه الأمة العفاء!

الثوابت التي ينبغي ان يتمسك بها العرب والمسلمون هي تلك التي تتبناها الامم المتقدمة او السائرة نحو التقدم: اي دولة الحق والقانون وترسيخ النزعة الانسانية: اي اعتبار الانسان قيمة بحد ذاته بغض النظر عن اصله وفصله او عرقه وطائفته ومذهبه انها تعني تقييم الانسان كفرد من خلال سلوكه العملي او الفعلي على ارض الواقع لا من خلال اشياء خارجية عليه ولا حيلة له فيها.

ولكن التوصل الى ثوابت الحداثة هذه دونه خرط القتاد. فثوابت القدامة تقف في وجهنا بالمرصاد. وبالتالي فلا بد من تفكيكها، من خوض معركة شرسة معها، قبل ان ينبلج الفجر او خيط النور من تحت الانقاض.

وهذا ما يحدث الآن في العراق. هناك سباق محموم، هناك صراع على التاريخ بين قوى القديم وقوى الجديد، بين ما كان وما ينبغي ان يكون. والمحافظون العرب ما عادوا قادرين على تحاشي المسائل الاساسية عن طريق التمترس وراء ثوابت الأمة. لا ريب في ان عطالة التاريخ او رواسبه تقف الى جانبهم او تدعمهم. لا ريب في ان العناصر الاكثر ظلامية في التاريخ العربي الاسلامي تغذيهم بوقود لن ينفد عما قريب.

لا ريب في ان شرائح واسعة من الفقراء والجهلة والاميين تستمع الى كلامهم وتمشي وراءهم كالقطيع. ولكن حركة التاريخ العالمي كلها ضدهم، وكذلك الشرائح المستنيرة والعقلانية داخل العالم العربي الاسلامي نفسه. اني اعرف ان المعركة لم تحسم بعد، واعرف انها خطرة، بل واكثر من خطرة اني اعرف انها غير متكافئة. ولكنها معركة المعارك، ام المعارك. انها المعركة التي حُرمنا منها طيلة عقود وعقود والتي اصبحت الآن تفرض نفسها علينا بحكم قوة الاشياء ومنطق التاريخ.

وهي المعركة التي لم يتحاشاها فلاسفة العقلانية في اوروبا عندما اصطدموا بعقلية عصرهم والشعب المسيحي الخاضع كليا لأوامر الخوارنة والمطارنة والكهنة. فهؤلاء لم يستسلموا لثوابت امتهم الخرافية والاستبدادية المتعصبة. ولم يقولوا انها فوق المساءلة والمراجعة والتمحيص، كما يفعل المثقفون العرب اليوم الا من رحم ربك. وانما راحوا يدرسونها على ضوء العلم والعقل لكي يعرفوا منشأها وكيف تشكلت لاول مرة ومن الذي شكلها.. الخ. وهكذا راحت هالة التبجيل والتقديس تنحسر عنها رويدا رويدا لكي تبدو على حقيقتها.

وعندئذ استطاعوا ان يتحرروا منه وينطلقوا حضاريا. عندئذ حصلت المصالحة بين الدين والعقل او بين التراث والحداثة بعد طول خصام وعراك. وهذه المعركة الخصبة والتحريرية الهائلة هي التي يريد المحافظون العرب حرماننا منها بحجة المحافظة على ثوابت الأمة! وهكذا تظل الروح العربية مقيدة، أسيرة، مشلولة، كما كانت عليه في عصر الانحطاط وعندما اقول الروح فاني اقصد الفكر او الفلسفة او المقارعة الحرة للذات مع العالم. اني اقصد الحضارة التي تتجسد في كل فترة بأمة من الأمم.

وبالتالي فنحن نسألهم: هل التخلف او الجهل والتعصب او الانحطاط هو من ثوابت الأمة ايضا. هل انعدام النزعة الانسانية والفكر الفلسفي منذ الف سنة تقريبا هو من ثوابت الأمة؟ وهل هيمنة الفكر الظلامي الذي يتجسد في الشخصيات التي ذكرتها او لم اذكرها هو ايضا من ثوابت الأمة؟الاجابة معروفة، وستبقى المعركة معركة المعارك كما اسلفت، ولكنها، وان حرمنا منها، إلا انها تعرض نفسها علينا الآن، ومن تحت الانقاض هذه يجيء المستقبل أو لا يجيء.