ذاكرة العراق.. بين جزيرة البعث.. وبحث الجزيرة

TT

كنا لثلاثة عقود، أقلية بسيطة في شارع الصحافة البريطاني، نحلق خارج السرب الصحفي في تقاريرنا من، وعن، العراق في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

فالاهتمام الاول لقارئنا محلي; وباستثناء امريكا، لا يهمه من اخبار وراء البحار إلا ما يؤثر عليه مباشرة كدخول بلاده حربا أو مشاهيره في الخارج.

ولذا اختفت العراق من شاشات رادار الأخبار العامة Main-stream news في بريطانيا باستثناء تقاريرنا، متخصصي منطقة الشرق الأوسط والمراسلين. فأولويات انفاق ميزانية الديسك الخارجي كانت تغطية خطف الطائرات للأردن واحداث سبتمبر; وحرب هندية باكستانية تبعتها حربا مصرية أسرائيلية سورية، وتفرعاتها من اشتباكات فلسطينية اسرائيلية في لبنان وحربها الأهلية وعملية السلام الكبيرة في الشرق الأوسط، ومغامرات عيدي امين في افريقيا.

لم تجد حرب التطهير العرقي البعثية ضد الأكراد اهتماما كبيرا من الـ Main-stream باستثناء تقاريرنا ـ النادرة ـ عند النجاح في اقناع المحرر الخارجي بتوفير ميزانية السفر والأقامة. فخريطة المراسلين تتغير ـ لأسباب اقتصادية ـ حسب درجات حرارة العواصم اخباريا، ومدى سرعة الإنتقال منها واليها. ولذا اقتصرت مكاتب المراسلين على القاهرة والقدس وبيروت. وظهرت طهران على الخريطة في نهاية حكم الشاه والعام الأول من الثورة الأيرانية. وعندما شن صدام حسين الحرب على ايران عام 1980، هبط مراسلون جدد في البصرة ثم طهران وعبدان عندما سمح الإيرانيون لنا بالدخول. وسرعان ما اختفت هذه الحرب ايضا من شاشات الرادار الصحفية بتحولها الى روتين عادي، وانصرفنا عن العراق وتركت بعض الوكالات مراسلا واحدا في البحرين يغطي الحرب من الجهتين، خاصة بالتهاب الموقف في لبنان الذي جذبنا جميعا.

حاولنا، نحن القلة، مع اللقاء النادر بين المزاج العراقي بمنح الفيزا، مع مزاج محاسب الصحيفة بدفع تكاليف السفر، تسجيل الوقائع والحقائق، بحياد كشهود عيان، لما خبرناه من معاناة العراقيين في ايدي البعث، بمدرسته الفكرية الفاشية واسلوبه النازي وممارساته التصفوية الستالينية.

أقلية تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل ادوارد مورتيمر، في التايمز وقتها، ودافيد هيرست، مراسل الجارديان المخضرم، واندرو جاورز، مراسل الفينانشيال تايمز آنذاك ورئيس تحريرها الحالي، وهارفي موريس، مراسل رويترز في طهران، وزميله جوليان ناندي مراسلها في بيروت، وتيم للويللين، مراسل البي بي سي المتجول.

وباستثناء لقاءات عابرة في مؤتمر صحفي او في بار الكومودور في بيروت عند مرور احدنا بها، ندر اتصالنا ببعضنا البعض. فلم يكن هناك بريد الكتروني وتليفون نقال. لكن الباحث في الأرشيف سيلاحظ تشابه تقاريرنا من وعن العراق: مثل سوء معاملة الأسرى، استخدام السلاح الكيماوي ضد ايران، الدولة البوليسية التي ارهبت المواطنين فزاد عدد المغادرين على العائدين واغتيال المعارضيين العراقيين في السودان وبيروت والكويت ولندن.

الرابط الآخر بيننا، الأقلية المتخصصة، هو تعرضنا لحملة شرسة من التشكيك في المصداقية وترويج الشائعات، وسرقة حقائب الأوراق، والأساءة للسمعة. لم تصدر الحملة مباشرة عن نظام البعث أو صحفييه المجندين ماديا أو أيدولوجيا; بل عن «لوبي» تجار السلاح وشركات تصنيعه الغربية. فصدام «رجلهم» المتصدي لايران، وزبونهم المفضل في «بوتيك السلاح» عندما فرش له جاك شيراك البساط الأحمر في George V في نهاية السبعينات في باريس عند وصوله محملا بربع طن «المسقوف» الذي أعجب شيراك على ضفاف دجلة. أهدر الزبون المفضل أموال الأمة العراقية (105 مليارات دولار من 1980 - 1986) على الميراج الفرنسية، ودبابات تي 72 الروسية، والزوارق الحربية والذخيرة البريطانية، وطائرات هليكوبتر بل الأمريكية، ووقود الصواريخ والكيماويات الالمانية، وصواريخ سكود الكورية والصينية، وقذائف المدفعية بعيدة المدى الجنوب افريقية.(يمكن مراجعة تفاصيل الأسلحة في كتابنا الصادر عام 1990)

Unholy Babylon:

The Secrete History Of Saddams War; London Victor Gollancz- New York St Martins Press

خشي البعض من تنبيه تقاريرنا الرأي العام البريطاني إلى استخدام سلاحه في الهجوم بدل الدفاع على ايران والأكراد والشيعة العراقيين. اثار تقرير (في الأندبندنت) استخدام صدام طائرات بريطانية الصنع، في القاء الغاز السام على القرى الكردية، زوبعة في مجلس العموم، فقانون الدولة يحظر بيع السلاح الهجومي، فأرسل وزير بريطاني بشكوى لرئيس التحرير يتهمني والزملاء بقطع أرزاق الناس، لأن منع التصدير سيغلق مصانع السلاح. وعقب نشري سبقا صحفيا عالميا، عام 1989 عن مصرع 800 من خبراء وعمال اجانب، اغلبهم مصريون وكوريين، في انفجار مصنع وقود الصواريخ في الحلة، اكتشف «القسم المخصوص» في بوليس لندن اسمي على قائمة اغتيالات وأهداف مع عملاء «اجانب» قبض عليهم في المطار.

وعندما ذهب مراسل الأوبزيرفر الراحل فرزاد بازوفت (وكان صديقا للعراقيين يسهر مع وكيل وزارة الخارجية ويلهو مع سفير العراق في لندن محمد المشاط) للتحقيق في القصة، قبضت مخابرات صدام عليه، ولم يعترض وفد برلماني بريطاني يزور العراق وقتها، وليلة اعدامه، بتهمة تجسس باطلة، سربت مصادر حكومية بريطانية معلومات عن تورطه في تهمة سرقة في محاولة لتلطيخ سمعته، بعد ان اثارت جريمة قتله شارع الصحافة العالمي كله ضد صدام والبعث ولوبي تجارة السلاح. واليوم يطل شبح عنف صدام باختطاف الصحافي جيمس براندون مراسل الصندي تلغراف في البصرة، في احداث لا ناقة له فيها ولا جمل، وكأن العراقيين لم يتعلموا شيئا.

ولم تتغير قناعتنا آنذاك او اليوم بأن العالم يصبح مكانا أفضل من دون صدام ونظام البعث، فأبقيت تعليقاتي في الأعلام العالمي على ايجابية التحليل بإمكانية الشعب العراقي على اعادة بناء امته ومؤسساتها كنموذج ديموقراطي للمنطقة، بضمان امريكي يفرضه الواقع العملي.

لكن اعادة الحكومة الإنتقالية ادراج حكم الأعدام في القانون الجنائي تضع أصدقاء العراق في الصحافة الدولية في مأزق اخلاقي، إلى جانب الأبعاد القانونية والدستورية. فالأعدام، أو القتل القضائي المناقض لحقوق الإنسان، هو إرضاء بدائي لشهوة الإنتقام بينما لا يقدم تعويضا إيجابيا للضحية أو المجتمع. كما انه لا يردع المهووسيين الانتحاريين.

والحكومة المؤقتة تكتسب الشرعية فقط عند انتخابها بالأغلبية، ولذا فتعديلها القانون الجنائي مشكوك في شرعيته الدستورية. أما الموقف المبدئي الذي دفعني الى نصرة الشعب العراقي، فهو نفسه الذي يدفعنا الى رفض قبول مبدأ منح الصلاحية لأي انسان أو سلطة بشرية لأزهاق روح انسان آخر.

وأحرزت الحكومة الانتقالية هدفا آخر في مرماها بدلا من مرمى الخصم، بالتسرع بإغلاق مكتب فضائية الجزيرة ومنع مراسليها لمدة شهر.

ورغم رفضي، مهنيا، لأسلوب الجزيرة غير الحرفي في التقرير الصحفي، وانتقائها غير المتوازن للوقائع، فانني لا أملك إلا الدفاع، عن حرية التعبير، وحق الجزيرة وغير الجزيرة في الوصول لمكان الحدث والبث دون رقابة ودون اعتراض من المسؤولين.

أطلعني مسؤولون على أدلة اتصلات تليفونية، وتفريغ تسجيلات صوتية تضع الجزيرة في كثير من محاكم العالم، في مأزق قانوني في طريقة التعامل مع متورطين في الأرهاب. لكن قرار الفصل في هذه الأدلة هو القضاء وليس الحكومة.

ويشتكي العراقيون، مواطنين وصحفيين، مما يعتبرونه إساءة متعمدة للشعب العراقي، كإشارة نشرات أخبار الجزيرة لانتحاري فلسطيني بـ«الشهيد» بينما تحرم العراقيين، شرطة ومواطنين، من اللفظ نفسه عند اغتيالهم بقنابل الأرهاب. ويقول جلال عبد الله الماشطة، مدير الاذاعة العراقية ان تقرير الجزيرة، عن مقتل مدنيين عراقيين أبرياء في انفجار صاروخ اطلقه ارهابيون امام مكتبه، ذكر أن «المقاومة اطلقت صاروخا على المنطقة الخضراء التي تقع فيها السفارة الأمريكية» رغم ان الأخيرة تبعد اميالا عن موقع الانفجار في منطقة لا يوجد فيها امريكي واحد، مدنيا أم عراقيا; فالمساحة الخضراء هذه تبلغ اربعة اضعاف مساحة العاصمة التي تبث منها الجزيرة، مثلما يقول.

ويقول العراقيون والديبلوماسيون في بغداد ان المهنيين والتكنوقراط العراقيين الذين يعيشون ظروفا صعبة، ويضحون لأعادة بناء أمتهم، ضاقوا ذرعا بما يروه تحريفا للحقائق ـ كتقدير الصاروخ باعلاه ـ وقد مارسوا الضغوط على حكومة إياد علاوي لمدة طويلة لاتخاذ اجراء ضد الجزيرة. ويقول تكنوقراط عراقيون إنهم يسمعون يوميا «فتاوي» متطرفين متأسلمين تستضيفهم الجزيرة تستبيح دمائهم «كمتعاونيين» مع الاحتلال ـ من مدرسيين وأطباء ومهندسيين عادوا لأعمالهم العادية بعد الحرب ـ مشيرين إلى أن الجزيرة لم تمنحهم أبدا فرصة الظهور للتعبير عن موقفهم، كضحايا مستقبلية لفتاوي ازهاق أرواحهم أو تصحيح خطأ تقريرها، او حتى موازنة فتاوي المهووسيين، بفتاوي أغلبية رجال الدين عن تحريم الإسلام والقتل بكافة أنواعه.

ونتيجة منع الجزيرة، استضافت الجارديان اليسارية قلم مقدم برنامج يستضيف المتطرفين المتأسلمين الذين يروجون للعنف والأرهاب «كجهاد» مقبول ويستبيحون دماء العراقيين، مرتديا قبعة «رئيس العلاقات الدولية في قناة الجزيرة»، صائحا من أعلى مئذنة صادفها بنصف الحقيقة فقط عن «حرية التعبير» وما سماه «اضطهاد الحكومات للجزيرة» مثيرا تعاطف الصحافة العالمية معه.

ولذا أدعو رئيس الوزراء علاوي إلى التدخل لتصحيح الخطأ ورفع الرقابة عن الجزيرة فورا، وعلى المواطن المتضرر من «أجندة» الجزيرة اللجوء للقضاء اذا أراد. وحذار من طريق «المستبد العادل» فهو اتجاه واحد، يؤدي دائما إلى مستنقع الديكتاتورية.