حكومة علاوي .. بين معالجة المسألة الأمنية وتصفية آثار الاحتلال

TT

عندما رجعت الى بغداد لأول مرة في يونيو( حزيران) 2003 بعد غياب كامل عنها أمتد لأربع وعشرين سنة مستمرة، هي الفترة ذاتها لرئاسة صدام حسين وزيادة طفيفة!، كتبت بعد عودتي للندن عن عدد الجريدة الرسمية للدولة العراقية (الوقائع العراقية) الذي أصدره الحاكم الأمريكي (بول بريمر) وكان ذلك العدد متواضعا في حجمه إذ لم يزد عن تسع عشرة صفحة بالعربية ومثلها بالإنكليزية، لكن الواقع الذي كان ينمو تحت سلطة الاحتلال وقراراتها وقوانينها كان شيئا مختلفا تماما. في زيارتي الثانية لبغداد في فبراير (شباط) الماضي هالني حجم (الوقائع العراقية )في مدى ثمانية أشهر فقط مما يدل على ان (بريمر) وسلطته ومجلس الحكم الذي عينه، اشتغلوا كثيرا في تأطير الواقع الذي سيخلفهم في انتقال السيادة للعراقيين وإصدار القوانين والقرارات المنظمة بحيث تم انتقال السيادة في 28 يونيو الماضي، وكأن الأمور استمرت من دون تغيير جذري يذكر! وتقول بعض المصادر إن بريمر أصدر في الشهر الأخير لسلطته ما مجموعه ثلاثة وتسعين (قانونا وقرارا)، وبذلك تفوق على صدام حسين وسلطته في هذا المجال ، وذلك حينما ذكر صدام مرة مادحا وزير عدله الدكتور منذر الشاوي ووزارته بأنهم قد أنجزوا في سنة واحدة ما مجموعه خمسمائة قانون! حتى جلب صدام حسين ومثوله أمام قاض للتحقيق في الأول من (تموز) كأول عمل للحكومة الجديدة جاء بناء على الأمر القاضي بذلك والصادر أيام (خالد الذكر) بول بريمر الثالث!

حينما كتبت مقالتي حول (اجتثاث البعث) وتفضلت «الشرق الأوسط» ونشرتها بالعدد المؤرخ في 8/6/2004 ، فقد كنت قد أرسلتها للنشر قبل الإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديدة ببغداد ورموزها ، وقلت بالحرف الواحد حينها..«ولإعطاء السيادة القادمة معنى وقيمة حقيقية مع وجود الأمم المتحدة الفاعل وممثلها السيد الأخضر الإبراهيمي ، أقترح على الحكومة العراقية المؤقتة المقبلة ، المفترض أن يجري تعيينها من قبل الأمم المتحدة، تشكيل هيئة وطنية عراقية من السياسيين والقانونيين تكون مهامها محصورة بمراجعة كل القوانين والقرارات والأوامر التي أصدرها الحاكم المدني للعراق السفير (بول بريمر) ومجلس الحكم الانتقالي المعين من قبله أثناء فترة الاحتلال لغرض إلغاء بعضها أو تعديل البعض الآخر منها بما يتوافق مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المنظمة لصلاحيات المحتل في البلد المحتل (بالفتح)، وكذلك بما يخدم المصالح الوطنية العليا للشعب العراقي، ولكي تستطيع هذه الحكومة بذلك كسب احترام الناس لها، وخلق الثقة في صفوفهم لعملها في الإعداد الجدي والحقيقي للانتخابات العامة المقبلة تحت إشراف الأمم المتحدة في نهاية هذه السنة ، ودفع الوسط السياسي العراقي على طريق المصارحة والمسامحة وتهيئة المناخ الإيجابي للحوار المسؤول البناء والمصالحة الوطنية بين العراقيين كافة».

الحكومة العراقية مطالبة بممارسة الإنصاف مع من أصابه حيف أو ظلم من جراء الاحتلال وتداعياته وبالطبع ، لا أقصد بذلك تلك الفئة الباغية التي كانت مسيطرة على العراق ومقدراته والملتفة حول صدام حسين وعائلته الحاكمة والتي يطمح الجميع بأن تواجه مصيرها وحكم العدالة عليها من خلال القضاء العادل والنزيه، والذي سيؤشر على ولادة حقيقية للعراق الجديد ، وإنما المقصود عشرات بل وربما مئات الألوف من المواطنين العراقيين ممن كانوا يعملون بوظائف تنفيذية متوسطة أو صغيرة (رؤساء أقسام ، ملاحظين، كتبة ، عمالا على مختلف صنوفهم ، مراسلين، وحراسا وغيرهم..) في ما كان يسمى على سبيل المثال لا الحصر ـ (ديوان رئاسة الجمهورية) والذي يشار له اختصارا باسم (ديوان الرئاسة) ، أو ممن شاءت مزاجية (القائد الضرورة)، بأن يكرمه من المتقاعدين ويلحقه بديوان الرئاسة كي يرفع من راتبه التقاعدي الشهري ، كل هذه الشرائح حجب عنها مصدر عيشها خلال كل الفترة الماضية من الاحتلال ، وآن الأوان لأن يعاد لها حقها الذي حرمت منه دون وجه حق، وحتى تتأكد الناس بالملموس المادي بأن آثار الاحتلال قد بوشر بإزالتها جنبا الى جنب مع ما تبقى من عصر الديكتاتور السابق وعهده المندثر. وهذه الفئات لا تختلف من حيث النتيجة والمصير عن منتسبي القوات المسلحة العراقية وبعض الوزارات السيادية التي شاءت إرادة بريمر حل مؤسساتهم الوطنية ، ورميهم الى المصير المجهول والتعمد بتوسيع مساحات النقمة والغضب لدى قطاعات عراقية شعبية واسعة والتي كانت واحدة من نتائجها دخول العراق في دورة العنف الدموي بعد أن أكملها (تكحيلا وعمى!)، تحدي الرئيس الأمريكي بوش لإرهابيي العالم ودعوتهم للمواجهة (الرجولية!) على أرض العراق وفتح حدود العراق لدخولهم من كل جانب والشعب العراقي لا حول ولا دخل ولا قوة له على ذلك! وهو يعاني من القتل والتخريب والتدمير بكافة صوره وأشكاله و(عزاؤه) هو ما يطلع عليه الرئيس الأمريكي مخاطبا مواطنيه من خلال وسائل الإعلام حاملا لهم (الأخبار السارة) حول الحرب على الإرهاب في العراق وكيف أنها جنبت وتجنب الولايات المتحدة الحرب على الأراضي الأمريكية ، وبالتالي لتستمر أمريكا في مقاتلة (بن لادن) والزرقاوي والبقية من الإرهابيين على أرض العراق وحتى يتم القضاء عليهم وعلى آخر فرد عراقي!.

إن الموضوعية تقضي بأن نقرر أن الوقت المتاح لهذه الحكومة المؤقتة ليس كافيا بالمرة للتعامل مع المفردتين الحيويتين ألا وهما فرض الأمن وتحقيق الأمان، وإجراء الانتخابات العامة في يناير (كانون الثاني) 2005 ، ومع ذلك فإن تركيز الدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء في تصريحاته الأخيرة على مسألتي الأمن وتحريك الاقتصاد تأتي في السياق الصحيح خصوصا إذا ما جرى الالتفات للمطالب الشعبية المشروعة المتمثلة في رفع الأذى والظلم عمن أشرنا لهم ومنهم من شاهدنا مظاهراتهم الاحتجاجية على التلفاز يوم السبت 24 يوليو (تموز) وهم بعض منتسبي وزارة الإعلام العراقية المنحلة بموجب أمر بريمر وكانوا مجتمعين أمام وزارتهم السابقة وتحدثوا بمرارة وغضب! كذلك تدوير عجلة الإنتاج الوطني الزراعي والصناعي والمعالجة الحقيقية المستعجلة لقطاعات الخدمات وعلى رأسها الكهرباء والماء والإتصالات ، والتصدي بشفافية ووفق القانون لكل التجاوزات والخروقات والتلاعب المالي والفساد الإداري الذي حصل وأصبح حديث العامة والخاصة في عهد بريمر ومجلس الحكم المنحل.

لقد كنا منتبهين جدا في الاتحاد الوطني العراقي لهذه النقطة بالذات وذلك عند مشاركتنا في مؤتمر القوى العراقية الموحدة الذي انعقد ببغداد يوم 23/3/2004 وجاءت الفقرة السابعة من كلمة الاتحاد الوطني العراقي في نصها بما يلي.. « 7 ـ إن تجربة السنة الماضية تجعلنا نؤشر الى بؤر الفساد الإداري والمالي التي كانت معششة في مفاصل النظام المنهار وقد تسللت بحكم الاستمرار والوجود والإمكانيات لتوطد نفسها مع حالة التغيير التي حصلت، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر ما أفرزته التجربة من مشاريع فساد وإفساد وافدة تحت واجهات وإعلانات شتى وتمثلت بخلخلة الجهاز الحكومي وسيطرة بعض مراكز القوى غير الشرعية على الأداء الحكومي، وتنفير الكفاءات الحقيقية واحتلال مواقع من دون الرجوع الى الإمكانيات والمؤهلات والخبرات الفنية في إدارة مفاصل الدولة بما يحقق العدالة وخدمة المواطن العراقي»..

صحيح أن بعض وجوه المرحلة الاحتلالية التي انتهت قد توارت مؤقتا، أو اختفت نهائيا ! بينما استمرت أخرى في هذه المرحلة، وعلى الرغم مما قيل ويقال عن بعض هذه الوجوه المستمرة حول أدائها العاطل والركيك في التعاطي مع المسؤوليات الخدمية الحيوية التي كلفت بها، وما يشاع لدى الجمهور العراقي عن (قابلية ذمتها) في التوسع والاستيعاب والشفط في أمور المال العام والأعمال! إلا أننا يجب أن ندرك بأنها لا تزال تحمل بطاقة التعريف والتزكية من لدن الأب الأمريكي القائد... ومع ذلك ، فلا يزال طريق الأمل والعمل، مشروعا وطويلا ، لبناء العراق الجديد.

* كاتب عراقي