عقدة تحتمس

TT

كاد اسم الملكة «حتشبسوت» التي تعد اليوم من أعظم السيدات في التاريخ يضيع، ويسقط تماماً من التاريخ، وبالتالي كان الأمر المتوقع أنه عندما نزور البر الغربي في مدينة الأقصر، أن نمر على الدير البحري، وهو المعبد الذي نحت في الصخر، دون أن ندري أن من شيد هذا الأثر المهم، سيدة مصرية أصبحت ملكة جابت دول العالم وتركت أثراً مهماً في تاريخ الانسانية.

ذكرت أن اسم حتشبسوت كاد يضيع دون أن أذكر لماذا، والاجابة أظن أن معظمنا يعرفها، والأكيد أن كل من زار الدير البحري يعرفها، فقد قرر الفرعون التالي لها ابن زوجها «تحتمس الثالث» أن يمحو أي أثر لها، لذلك جاب هو ورجاله أنحاء مصر القديمة بحثاً عن أي بصمة لها ليمحوها، ولذلك يلاحظ الزائرون للدير البحري أن اسم ووجه حتشبسوت تم كشطه من جدران المعبد الذي يحمل كل تفاصيل عهدها دون وجود لوجهها أو اسمها، ولولا الصدفة أو السهو الذي حمى بعضاً من أسماء وصور الملكة حتشبسوت لسقط اسمها من التاريخ الانساني.

لماذا أذكر هذه القصة القديمة التي تعود الى أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟ الاجابة بسرعة: لأنها قصة قديمة، لكنها فعل وسلوك دائم امتازت به ثقافتنا منذ العهود الغابرة. ومن المناسب التذكير بها دائماً، وبالتالي فإن التذكير بها هذه الأيام مسألة مفهومة، يضاف الى ذلك أننا نعيش منذ فترة طويلة موسم الحديث عن التغيير والاصلاح والبحث عن وجوه جديدة.

تربينا في مدارسنا ومجتمعاتنا على أسلوب ابن زوج حتشبسوت، حدثتنا كتب التاريخ ووسائل الاعلام عن العهد الغابر، والعهد الزائل، والعهد البائد وكأنه بات جزءاً من ثقافتنا أن كل ما فات لا يليق به إلا اهالة التراب عليه، وباتت احدى العلامات المميزة لثقافتنا في التعامل مع السابق هي محاولة طمسه، بل هدمه أحياناً ومحاولة إعادة البناء من جديد، لذلك لا يعلو لنا الكثير من البنيان، لأننا نظل دوماً ندور في دوامة البداية، بداية البناء. وان كان أحد فينا مختلفاً فإنه يتغاضى على البناء الموجود ان وجد صعوبة في هدمه، وبمرور الزمن يخلق حالة وعي جديدة ومختلفة بأن هذا البناء ينسب له، وهذا الانجاز محسوب له حتى لو كان عمره، أي الانجاز أو البناء، أضعاف عمر القادم الجديد. هذه السمة ليست سمة يتمتع بها أو يستحوذ عليها كبار مسؤولين فحسب، بل أنها تتسرب الى المستويات الأدنى، فتشكل جزءاً من نسيج تفكيرنا وأسلوبنا.

عندما دعا الدكتور ممدوح البلتاجي وزير الاعلام المصري الجديد السيد صفوت الشريف وزير الاعلام المصري السابق وآخرين من وزراء الاعلام الأسبق سئلت ومعي آخرون في برنامج تلفزيوني عن مغزى هذا السلوك، كان رد أحد الزملاء بأن ذلك يأتي تعبيراً عن تثبيت قيمة أخلاقية في تكريم الحالي للسابق، وكان ردي أنه مع اتفاقي مع هذا الطرح، إلا أنني أضيف أن الأهم هنا هو أنه ينبغي اعتبار هذا الموقف اعترافاً بأهمية مفهوم البناء على ما سبق أن تم، والاعتراف بأن هناك انجازاً سابقاً، وأن أي انجاز آت هو مبني على ما سبق ومكمل له، والاقتناع بأن الحضارات هي نتاج تراكمي للخبرات، ولو كان السلوك هو هدم ما سبق، والتحقير من شأنه، وإدعاء البناء من جديد، فلن تكون هناك حضارة حقيقية.

ليتنا نتخلص من مفهوم العهد البائد والزائل.. ليتنا نتخلص من عقدة تحتمس الثالث.

[email protected]