كتابات للصيف ـ قطار صقلية

TT

لا يزال السفر مدهشا لكنه لم يعد حافلا بالمفاجآت كما كان في زمن الرحالة و«اسفار غوليفر». ولم يعد في امكان السندباد ان يخدع السلطان، حتى في باب التسلية وتبديد الليل حتى الصباح. فالاشياء والمدن والمرافئ مفتوحة لجميع الناس. اللهم الا في بلاد الزعيم المبجل كيم جونغ ايل. وعندما دعيت الى رحلة بحرية في جنوب ايطاليا قبل ايام خطرت لي اواخر الستينات والسبعينات عندما كنت اركب «الاسبيريا» من بيروت ويمضي الليل بطيئا في الاسكندرية ثم في «البيريوس» وبعدها يبدأ الساحل الايطالي بسقوف القرميد واشجار الصنوبر وتدافع الايطاليين وتراكضهم نحو اللامكان واللاشيء. انهم قوم يغنون.

كان القطار، الدرجة الثانية، يحمل معه جميع انواع البشر وجميع اطراف الحكايات. وكان يحمل النسوة الملتحفات بالسواد من صقلية، التي يصفها الايطاليون مداعبين، بانها الدولة العربية الوحيدة التي لم تعلن الحرب على اسرائيل! وقد مرَّ العرب بجنوب ايطاليا في ايام نورهم وازمان حضارتهم، قبل ان يدخلوا السبات الازلي ويبشروا بالكهوف، وفيها يحاولون اقامة الامبراطورية الجديدة! الامبراطورية الاولى انطلقت من نور. والعتميون لم يساهموا عبر التاريخ سوى بشيء واحد: المطفأة.

كانت نابولي في الستينات والسبعينات مدينة الفقر والنشالين. وكانوا يحذرونك من الجميع. وكانت شرفات مبانيها مليئة بالغسيل والملابس الرثة. ومن بين الغسيل تطل السيدات السمينات ذوات الزنود الضخمة والمترهلة. انها «المامّا» الايطالية. المرأة القوية التي تدير شؤون العائلة، وتدير وجهها عن اشتغال زوجها في المافيا. وكان الجنوب على امتداده فقيرا وخاملا فيما الشمال الصناعي ينمو ويتقدم. وبدت ايطاليا لاهلها ذات مرحلة كأن غاريبالدي لم يوحدها ابدا. فهي جنوب شديد التخلف وشمال اوروبي بامتياز. وكانت نابولي في تلك السنوات مدينة فقدت كل امجادها الماضية، حتى متاحفها علاها الغبار والاهمال. وحتى بركان اتنا القريب لم يعد يكفي ليجتذب اليها السياح والمذهولين. وقد دارت بنا الباخرة ذات رحلة حول «فيزوفيا» في الليل.

وبدا مثل مهرجان رائع للالعاب النارية. وكانت حممه المتلاحقة تخرج من الفوهة، موجات موجات، كأنها ترسل او تعيد نجوما سقطت اليها من السماء. غريب هذا البركان الذي لا يبعث الخوف والرعب بل متعة المشاهدة. غير ان الخوف كان يدَّب عندما يحط المرء في نابولي. واول ما يكتشف ان الرقم الذي يطلبه سائق التاكسي لا علاقة له بكل الارقام الموجودة على العداد، او بالاحرى بكل الارقام المتداولة في العالم. كانت نابولي مدينة فظة لكنها تجيد الغناء. ولديها بضع حكايات باقية من الماضي مثل نجمة سينمائية في العمر الاخير. كما كانت على جدرانها كتابات تركها المسحورون من كبار كتاب العالم: ستندال. غوستاف فلوبير، الكسندر دوماس. ويوهان وولفغانغ غوته الذي مرَّ ببركان فيزوفيا في القرن التاسع عشر وكتب لا يزال البركان الى يسارنا، يتصاعد منه الدخان بكثافة. وقد شعرت بفرح صامت. ها انا ارى بأم عيني هذا المشهد الذي لا مثيل له!