مقتدى الصدر.. الدور والمصير ـ .. هل يستطيع أن يكون خميني العراق ؟!

TT

«إذا دزوا إلنا خميني واحد إندز ألهم عشرين خميني». كلمة قالها صدام حسين، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك، باللهجة العراقية إثناء تسفير آية الله الخميني من العراق، حصل ذلك على ما أعتقد في أكتوبر 1978، وهي المرة الأولى التي يشتهر فيها اسم الخميني بين العراقيين، بعد ان كان خبره شائعاً وسط النجفيين فقط، ومنهم مَنْ كان يتجنب الصلاة خلفه لأنه من آيات الله المتسيسين. بيد أن التعاطف الذي حصلت عليه الثورة الإسلامية بإيران بين أوساط العراقيين عامة، كان حباً بالخلاص من نظام البعث، فهذا أحد تجار الشورجة، وهو من أكبر أسواق بغداد، قال لي عند اعتقال ولده القيادي الشيوعي بالحرف الواحد: «أملنا بنجاح الثورة الإيرانية». أكثر من هذا أتذكر رقصة المحامي الشيوعي في شوارع صوفيا بنجاح الثورة في شباط 1979، لأن الخلاص، حسب اعتقاده، من البعثيين سيأتي لاحقاً بلا تأخير. وكانت جريدة الحزب الشيوعي العراقي المركزية تنقل يوميات الثورة رغم تلقيها الإنذار تلو الإنذار من وزارة الإعلام، وقيادة ما يقال له بالجبهة الوطنية القومية التقدمية.

وبطبيعة الحال كان حزب الدعوة، الذي عاود النشاط بسرية مطبقة في السبعينيات، وشخصيات إسلامية مسيسة ينتظرون انتصار الثورة الإسلامية بإيران أملاً في زحفها إلى العراق. ومن مباهج العراقيين بالثورة أن طوى أحد رجال الدين الشباب الدارسين في حوزة النجف، الجبال والوديان ليصل سيراً على الأقدام إلى إيران، وتعرض في الطريق إلى مخاطر كادت تودي بحياته، قال: كنت أصبر النفس في الموعد مع الجنة، حيث الجمهورية الإسلامية. لكن بعد وصوله لم يجد غير فوضى ودوائر فارغة، وعمائم تتدخل في الصغيرة والكبيرة، بعدها قرر الرحيل إلى لندن طالباً اللجوء السياسي وخلع العمامة إلى الأبد، مع أن كل تاريخه السياسي هو حلم الالتحاق بجمهورية الخميني أو حسب عبارته دولة المهدي الموعودة. لم يقتصر الوهم على المتدينين في دولتهم الدينية الموعودة، بل كل أعتمر وهمه تخيل جنته، فهذا صديق كان يحلم بالوصول إلى صوفيا عاصمة بلغاريا الاشتراكية، ولحظة وصوله محطة القطارات رفض بشدة تصريف العملة في السوق الأسود، وذهب إلى البنك، لكنه تدريجياً أكتشف أنه واهم، ولم يجد جنته الموعودة أيضاً، ومع اختلاف النموذجين لكن الوهم واحد.

حدثت الثورة الإسلامية بإيران، وفتحت للجميع آفاق العمل السياسي. فالسجون في العهد الامبراطوري كثيراً ما جمعت بين اليسار واليمين، إن صح تحديد اتجاهات السياسة بالاتجاهين المعروفين. يذكر هذا الاختلاط الثوري أو النضالي حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني عند اعتقاله وتعذيبه من قبل جهاز السافاك، في مقابلة مع جريدة عربية تصدر بلندن: «بعد دخولي الزنزانة بادر بعض السجناء، ومنهم السيد علي خاوري المعتقل في الزنزانة المقابلة، وهو الآن يعيش في الخارج وسكرتير حزب تودة، بإعطائي عصيراً، وقاموا بتضميد جروحي». لكن حجة الإسلام رفسنجاني أصبح رئيساً للجمهورية وعضواً خطيراً في لجنة تشخيص مصلحة النظام، أما زميله في السجن والنضال فظل منفياً بالخارج. ألا يقتضي مثل هذا الموقف التساؤل والاستغراب، وأكثر من هذا كم أبعدت الثورة وأكلت من رجالها؟

فبعد الهيمنة على الحكم والغرور بالمد الشعبي، وهتافات «خميني رهبر» أي قائد عظيم، أنحسر دور الآخرين ثم عادت الثورة إلى اضطهاد رجالها مثل آية الله منتظري. وقيل كانت وفاة آية الله طالقاني، الذي أشتهر بأبي ذر الثورة، ملتبسة. بعدها أخذت أجهزت الثورة تلعب دور أجهزة الأمن السابقة مع خصومها، فالديمقراطية محددة بشروط جماعة تشخيص مصلحة النظام، غير الخاضعة لإجراء انتخابي أو لأي طعن بأمانتها. ومثلما تنكرت الثورة لشركائها الإيرانيين نجدها تتنكر للعراقيين الذين انتظروها بحماس، وسجنوا وقُتلوا بسبب توزيع منشور من منشوراتها، أو كتابة مقال في جريدة سرية، أو لمجرد تعاطف صامت.

أول خذلان العراقيين بالثورة الإيرانية هو محاولة تغييب مشروع النموذج العراقي الوطني في التغيير، وهو بداية خيبة الشعب الجار في الثورة الإيرانية قبل الإيرانيين أنفسهم. فالنموذج المسنود هو نموذج الخميني عن طريق تصدير الثورة، وهذا ما توهمته الأحزاب الإسلامية المدعومة من إيران، لذا انشقت جماعات عن تلك الأحزاب للعودة إلى المشروع العراقي، مثل كوادر حزب الدعوة الإسلامية، وجماعات أخرى. وتحولت قيادات أحزاب بكاملها إلى المنفى الغربي أو الملاذ السوري واللبناني بدلاً عن المظلة الإيرانية. وثاني خذلان هو إهمال الفارين العراقيين من جحيم النظام السابق إلى درجة العوز. وما كانت كارثة سفن اللاجئين على السواحل الاسترالية، واضطرار البعض إلى المغامرة في العودة إلى العراق وتحمل تبعات ذلك، إلا واحدة من نتائج الخيبة بالثورة.

كان آخر خذلان استغلال تحطيم ماكنة السلطة العراقية وفتح بوابات الحدود على مصراعيها للتدخل المباشر بتشجيع الفوضى وتأسيس جيش المهدي. ومقتدى الصدر استأسد بعد زيارته لإيران، رغم أن ضيق الإيرانيين من والده غير خاف على أحد، لأنه كان يمثل المرجعية الأقرب إلى النظام العراقي، وأصدر وقتها بشأن انتفاضة 1991 ما ضايق الأحزاب الإسلامية، حصل ذلك قبل الإفصاح عن مطاليبه المتواضعة والحشود الغفيرة التي يصلى بها صلاة الجمعة مع لبس الكفن، الصلاة التي غض الطرف عنها صدام حسين في بداية الأمر، لأنها بالنسبة له كانت بادرة شيعية إيجابية، ذلك لشعوره أنه الإمام العادل الذي صلى الشيعة صلاة الجمعة في ظله.

خلاصة القول يرى الإيرانيون في تثبيت الديمقراطية بالعراق ونجاح عملية التغيير فيه وابلاً خطيراً على نظامهم، والسبب لأن سلطة رجال الدين تعيش أزمة قاتلة، لابد من تنفيسها في حدث لا يقل عن حدث الحرب العراقية الإيرانية التي أطالت عمر النظامين على السواء. والسلطة الإيرانية المختلفة مع الأحزاب الدينية العراقية والمرجعية النجفية وجدت في السيد مقتدى الصدر ما يدعم الفوضى في الشارع العراقي، تحت شعار مقبول ومغري هو تحرير العراق من القوات الأمريكية، فبعد السكوت على قتل السيد عبد المجيد الخوئي، وتحويل مدينة الثورة إلى جمهورية الصدر وإدارتها إدارة غاشمة، وجد الصدر الابن نفسه في منزلة لا تقل عن منزلة الخميني في العام 1979، لكن الرجل غير الرجل والزمن غير الزمن.

يضاف إلى الدعم الإيراني المكشوف، الدعم المتمثل بهيئة علماء المسلمين السنَّية، وجماعة القوميين المتباكين على النظام السابق. فوميض نظمي لا يعني بتلقيب السيد مقتدى، على شاشة قناة عربية، بحجة الإسلام والمسلمين، غير اللعب المكشوف في الحالة العراقية، التي تزيدها الفلوجة وجيش المهدي تعقيداً، لعبها بعد أن وضع دراسته وبحوثه وحال العراقيين المأساوي وراء ظهره، فأي رسالة فقهية نال بها مقتدى لقب حجة الإسلام والمسلمين؟ لكن لا وميض نظمي ولا علماء هيئة المسلمين قبل تشكيلها نبس بكلمة عندما قُتل والد مقتدى الصدر وأخواه في عملية اغتيال مفضوحة، واستباح النظام مراقد النجف وكربلاء، وقتل وسجن علماء الدين. يعلم أمثال نظمي والمتحمسون عبر الفضائيات أن الدولة لو قدمت لمقتدى الصدر لتعثر فيها وتخبط، فبأي خطاب وأي رأي سيديرها، وتجربته وجيشه الكارثة في مدينة الثورة قد سبقته. إن الإساءة التي وجهها جيش المهدي، قبل قيام السلطة العراقية والانتخابات المزمَّع قيامها في بداية العام القادم، قد أثرت سلباً في شعبية الأحزاب الدينية عامة، فتدخله في شؤون الناس الشخصية، وتطبيقه لسياسة البعث بثوب آخر، من تعليق الصور وفرض الرسوم، والالتزام بتوجيهات معمميه من تحريم الموسيقى والسفور ومباهج الفرح، كل ذلك ألغى الحلم الإيراني في إقامة دولة إسلامية على النمط نفسه أو غيره. ويبقى رهان سلطة الثورة الإيرانية في زيادة جرعة بقائها هو عرقلة بناء العراق وزعزعة استقراره، فالشعب الإيراني آجلاً أم عاجلاً سيحاول محاكاة النموذج العراقي، وله مثل ما للعراقيين أربعة ملايين لاجئ ينتظر التغيير. وهنا سلطة رجال الدين، عكس ما توعدهم به صدام حسين ساستمر في خلق وبعث عشرين خمينياً بدلاً من خميني واحد كان لاجئاً يوم ما بالعراق.

* باحث وكاتب عراقي