مقتدى الصدر.. الدور والمصير ـ .. بين كاريزما نصر الله ومصير صدام حسين

TT

في الوقت الذي تستشري الحيرة في الإدارة البوشية نتيجة أن الحرب في العراق التي سبق أن أعلن الرئيس جورج بوش الإبن انتهاءها لكنها مستمرة في شكل أو آخر، ويضع المحيطون بالرئيس الأميركي أمامه بدائل وخيارات وأخشاب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تأتي استباحة النجف لتؤكد أن التصرف من خلال العضلات القوية هو السائد ويتقدم على التصرف ولو بالحد الأدنى من الحكمة. فليست بطولة على الإطلاق أن تقتحم الدولة الأعظم في العالم الملاذ الروحي لبضعة ملايين من العرب والعجم، وليس حلاً على الإطلاق إراقة دماء النجفيين لمجرد أن الشاب مقتدى الصدر الوارث أحزاناً بحجم الجبال من الزمن الصدَّامي يريد إعطاء شخصه أهلية تزعُّم بمثل حالة الشاب الأمير علي المنتظر وسط الأنقاض العراقية فرصة أن يقع عليه الخيار لتتويجه ملكاً يملك، ويبقى الحكم لرئيس وزراء من نسيج الكوكبة التي شغلت حتى قبل 14 يوليو (تموز) 1958 هذا المنصب بمن فيهم نوري السعيد.

وافترض مقتدى، المفتون بـ«الكاريزما» التي للسيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله» في لبنان، أن فرصته تتمثل في ورقة اعتماد المقاومة لإنهاء الاحتلال وترك العراقيين يقررون مصير دولتهم بأنفسهم وفي ضوء انتخابات حرة يسبقها إحصاء دقيق لعدد السكان، من دون أن يستوقفه ولو لبرهة تأمُّل أن مثل هذا المطلب صعب التحقيق وبمثل صعوبة إجراء هذا الإحصاء في لبنان لأن صيغة تقاسُم المناصب تختل، أو في الأردن لأن صيغة الأقلية تحكم الأكثرية ترتبك، أو في دول عربية أخرى، لا تتحمل المعادلة التقليدية أي مساس بها استناداً إلى العملية الإحصائية. وجاء اندفاع الصدر الشاب وافتراضه بأن «جيش المهدي» سيخذل جيش الدولة الأعظم، يفتقر إلى التروي وإلى النظرة الموضوعية لواقع الحال العراقي عموماً، والنجفي ـ الكربلائي خصوصاً، فضلاً عن أن كفة الميزان التي تمتلئ بالعلماء والعلمانيين الشيعة مزدحمة وإلى درجة أن الحاكم الفعلي للعراق لن تهتز فرائصه إذا كان بعض رموز الجناح العلماني مثل الدكتور أحمد الجلبي تساقطوا من هذه الكفة، أو إذا كان بعض رموز الجناح العُلمائي معمَّمين كانوا أو بالبدلة الإفرنجية آثروا الانزواء أو الابتعاد مكرَهين لا أبطالاً.

وعندما استرحلوا آية الله السيستاني إلى لندن للعلاج لإخلاء النجف من المرجعية الأساس، فإن ذلك كان الرقم الأخير في العد العكسي لكي يتم حسم الأمر مع مَن هم العمق الفاعل لمقتدى الصدر و«جيشه».. أي إيران. وتزامَنَ مع هذا الترحيل المباغت، وعبر بيروت وليس غيرها، للسيستاني الذي لا يرتاح أصلاً للصدر كرمز لعائلة طالما سُفكت دماء كبارها في الزمن الصدَّامي ولا لطروحاته وأسلوب المقاومة من خلال «جيشه»، أن العراق الحكومي وضع إيران في مرتبة العدو الأول، تتقدم بذلك على إسرائيل، وبذلك التقى السيستاني والصدر والحكومة العلاَّوية في الموقع الذي يشجع القوات الأميركية على أن ترتكب الخيار الذي ارتكبته في لحظة غياب تام للحكمة وتغييب للمرجعية، ذلك أنه ليس من الحصافة بمكان تحويل مدينة ذات رمز روحي وديني إلى ساحة مواجهة يجري فيها هذا الذي شاهده العالم عبر الفضائيات. وواضح أن الغرض من هذه الاستباحة للنجف هو إخضاع إيران و«حزب الله» في لبنان وبقية الأعماق الحزبية لإيران في العالم العربي، ذلك أن الاستباحة وما رافقها من عمليات حربية ودم غزير سال في كل مكان ومن دون أن يكون في مقدور إيران أن تفعل شيئاً عدا مواقف لفظية تلتقي مفرداتها مع مفردات مواقف مماثلة لفروع «حزب الله» في لبنان وغيره، تشكل إحراجاً أشبه بالإخضاع للحكم الثوري الإيراني، وتؤكد بأن هذا الحكم ليس في موضع من يؤازر أياً من أعماقه في ساعة الشدة، أو بمعنى آخر، إن في استطاعته أن يؤسس مقاومة أو حزباً ويساعد بالمال والسلاح والتدريب، إلاَّ أنه في اللحظات الحرجة يتباعد تفادياً من جانبه لشرارات تصيبه ولا ينفع فيها حتى دوي صاروخ «شهاب 3» الذي تمت تجربته يوم الاربعاء 11/8/2004 على وقع أنين جرحى الاستباحة الأميركية ـ البريطانية للنجف واستغاثات أطفال ونساء وشيوخ نجفيين وجدوا أنفسهم يغادرون الديار إلى بقاع أخرى... وعلى نحو ما نراه بين الحين والآخر من مشاهد في الفيلم الفلسطيني الذي لا نهاية له.

ونحن عندما نشير إلى أن الحكم الايراني لا يلبي في ساعة الشدة وتكون له حساباته الدقيقة جداً بحيث انه يصبح مثل أي نظام عربي لا حول له ولا قوة، فإننا نستند في ذلك إلى التناقض الملموس في الموقف وعلى مستوى القمة، فالرئيس محمد خاتمي يكتفي بكل الحرص على اختيار مفردات الكلام بإدانة «السلوك الأميركي» مع التذكير بأن إيران «تريد السلام والأمن في العراق لأننا نعتبر أن انعدام الأمن يضر بالمنطقة...». والمرشد الأعلى خامنئي لا يملك سوى الإدانة أيضاً وإن اختلفت المفردات، وذلك لأنه مُطالَب بحكم موقعه أن يقول ما من شأنه تبريد المشاعر، ومن هنا اغتنامه مناسبة اجتماع الملحقين الثقافيين في السفارات الإيرانية في الخارج يوم الاربعاء 11/8/2004 ليقول أمامهم: «إن المسلمين لن يغفروا للولايات المتحدة ما ترتكبه من فظاعات في النجف. إن الحياء كلمة لا وجود لها في قاموسهم. واليوم يجري ارتكاب واحدة من أبشع الجرائم في حق الإنسانية. إنهم باسم الديمقراطية والليبرالية يحطمون قلوب المسلمين ويحرقون قلوب الشيعة ويزيدون في تعميق الهوة بينهم وبين الأمة الإسلامية...». كما أن كلام خاتمي وخامنئي لا يختلف كثيراً من حيث عدم القدرة على مساندة الأعماق الثورية لإيران عن كلام وزير الدفاع الإيراني الأميرال علي شمخاني الذي قاله يوم اطلاق صاروخ شهاب 3، بعد إدخال تعديلات جذرية عليه وبحيث انه بات قادراً على اصابة اهداف يصلها مداه الذي يراوح بين 1300 و1700 كيلومتر، أي بعض الأهداف الإسرائيلية في فلسطين وبعض الأهداف الأميركية في قطر أو الكويت أو العراق. وما قاله شمخاني كان الآتي: «إن التحسينات التي أُدخلت على الصاروخ هي دفاعية ورادعة ولا تتعلق فقط بالمدى وإنما بخصائص أخرى أيضاً. لقد حاول الإسرائيليون مؤخراً زيادة قدراتهم الصاروخية وسنحاول أيضاً تحديث صاروخنا شهاب 3 في كل مرحلة وسنكسر عظام الإسرائيليين إذا هوجِمَت مصالح الأمة الإيرانية...». وهذا الكلام وكذلك تجربة «شهاب 3» تبعث في النفس بعض الطمأنينة المغلفة بالحذر، كون هذه المحاولة تجعلنا نستحضر «الظافر» و«القاهر» في زمن عبد الناصر، و«العباس» وأشقاءه في زمن صدَّام حسين. وفي الزمنين كان التحذير على أشده، لكن العظام التي تتكسر كانت عظام الأمة مع الأسف. عسى ولعل لا تتكرر الصدمة ومِنْ قبل وضع اقتراح أحد صانعي مخطط الحرب على العراق بول وولفويتز موضع التنفيذ والذي يقضي باعتماد الدولة الأعظم أسلوب الميليشيات في ضرب من يقاومها.. أي بكلام آخر الأخذ بظاهرة «الجنجويد» التي قد يكون البوشيون اكتشفوا أهمية الاعتماد عليها فقرروا إجبار السودان على التخلي عنها لتصبح حقاً حصرياً لـ«البنتاغون».. وكما لو أن المسألة وكالة سيارات أو منظِّف للغسيل أو نوع من المأكولات المعلَّبة.

وكما نلاحظ فإن وولفويتز، وبينما المواجهة بلغت أعلى درجات الحدة والخطورة في النجف، تقدَّم باقتراحه المتضمن منحه نصف مليار دولار للشروع في انشاء «الجنجويد» الاميركية ذات الطبعة المتطورة والمنزَّهة عن اي مطالَبة من مجلس الأمن وغيره بإنهائها وتجريد منتسبيها من سلاحهم واخلاقياتهم غير النظيفة. وعلى هذا الاساس فإن «جنجويد» وولفويتز ستكون القوة الضاربة والضارية لأميركا في بعض الدول الاسلامية، وبالذات العراق، وسيتم الترويج لها على انها من اجل الاسلام ورفعة شأن الدين الحنيف، بدليل ان المنتسبين هم من المسلمين ومحظور على غير المسلم هذا الشرف الذي لا يراق الدم عليه لأنه ليس رفيعاً.

وبالعودة الى مقتدى الصدر الذي كان مؤملاً ان يكون الرقم الصعب في العراق الايراني وضد العراق المتأمرك، لكن الأمر انتهى مأساوياً، يمكن القول من باب التشبيه إن الجامع المشترك بينه وبين صدام حسين واحد. كلاهما آثر النهاية المأساوية على البقاء بأقل قدر من الندوب والخدوش... وهذا سببه ان الإثنين اللذين يتبادلان العداوة وبينهما بقع عميقة من الدماء، راهنا على ان اميركا لا يمكن ان تفعل ما فعلته بكل العراق اولاً ثم بمدينة المراقد في شكل خاص، ومن دون ان يستوقفها قول القائلين عنها انها على رغم ذلك لن تكون امبراطورية موضع احترام الآخرين لها، وجاء الرهان خسارة فادحة... وإلى درجة الإفلاس.