«ولاية المثقف» في الفكر الإسلامي

TT

 ابتداءً فالولاية والسلطة أدوات سياسية، ويوم وهج «الولايات» في العالم العربي كانت السياسة حتمية في الذهنية العربية لكل شأن ثقافي أو فكري أو فقهي، ولكن الإصلاح والشأن الثقافي يحتاجان لحقل معرفي هادئ، وطرح معتدل؛ يقتحم مصالح الدنيا من خلال مقاصد الدين، وينزع في سهم الحياة بحظ وافر ليقيم معاشه، ويدَّخر لمعاده كما يريد الله أن تكون كرامة الإنسان «ولقد كرمنا بني آدم..».

ولكن «ولاية المثقف» هي سلطة في آراء الثقافة والإصلاح هذه المرة، وتحمل نفس مفهوم الولاية وإن تغير «الفقيه» إلى «المثقف»، فهذا الثاني يحمل كل أعباء الولاية الأولى، ومشكلات سلطته.

فالقالب السياسي هو الذي صنع هاتين الولايتين وخلقهما خلقاً آخر.

والقطعية الفكرية، والحدّية، والوثوقية هي قاسم مشترك بين الولايتين: «ولاية الفقيه» و«ولاية المثقف»، والانتقال إنما هو من وجه إلى وجه آخر من نفس الموقع، وليس انتقالاً من الخصومة السياسية المأزومة إلى الحقل المعرفي النزيه. وإذا كانت دوغمائية الأول(الفقيه) في القديم، فدوغمائية الثاني (المثقف) في قديم مختلف!

وإذا كانت تعبويّة الأول تجري حسب سياق المبادئ المتلائمة مع «فقهه»، فإن تعبوية الثاني تجري حسب سياق المبادئ المتلائمة مع «ثقافته»، فالثاني نقل تعبويته معه يوم أن أصبح مثقفاً وبنفس الحماس، وبذات القدر من النضال، إلا أن موقع النضال انتقل من نضال سياسي صرف إلى نضال اجتماعي، بدل أن يكون خلافاً ثقافياً هادئاً.

وبدل أن يكون المثقف الإصلاحي حلاً لمشاكل الولايات هذه، أصبح في بعض الأحيان جزءاً من مشاكلها، وأضحى أزمة جديدة إلى جوار الأزمات القديمة يوم أن استخدم القطعية، وادّعى امتلاك الحقيقة، ومارس شتّى أنواع الاغتراب.

وهو وإن تناول قضايا الثقافة لا يحتاج إلى «رَدْع الحكام» أو «دِرْع الأنام».

وإذا كانت ولاية الفقيه تطالب بواقع اجتماعي جديد بكل تفاصيله وأموره لتسقطه على هذا الواقع، فإن ولاية المثقف تطالب بواقع ثقافي جديد بكل تفاصيله وأموره ـ أيضاً ـ، بعيداً عن روح العصر والواقع، وكلاهما لم يحظ بشرف أن يتعامل مع هذا الواقع القائم لتعديله، والإضافة عليه كما تستفيده من القواعد الفقهية في «خير الخيرين، وشر الشرين»، عوضاً عن إلغائه وإعادة تشكيله من جديد.

إن الفكر الإسلامي بالتحديد يحتاج إلى فقهاء ومثقفين، لكن دون أيَّة ولاية هذه المرَّة، في تعددية فكرية، وحرية ثقافية.

وبقراءةٍ لمراحل الفكر الإسلامي بإجمال، حين النظر للذهنية الدافعة للتفكير والعمل في العصر الحديث، نجد أن الفكر الإسلامي المعاصر مرَّ بمراحل عديدة، لكن حين دراسة سيكولوجية (نفسية) هذه المراحل، وإن كل مرحلة تتميّز بفروق عن المراحل الأخرى، وبإمكاني تصنيف مراحل الفكر الإسلامي الحديث من حيث الدوافع النفسية التي تحكم منطقه إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة «المفكر/الإنسان» الطبيعي المتناغم مع عصره وواقعه؛ الذي يحمل كل مميزات الإنسان؛ بتجلِّياته ومشكلاته، بإشراق روحه وهبوطها، بعطائه وانفعالاته. باختصار: بكل إنسانية الإنسان: فهو يحتاج في نواقصه لمكملات الآخرين، ويعطي الآخرين فيما يحسنه؛ في عملية (مبادلة) معتدلة.

ثم المرحلة الثانية: مرحلة «المفكر/النبي» في دعوته ورسالته والقيام بشؤون الدين، وليست مشكلته في تطبيق واجبات النبوة، وإنما في دعوى امتلاك خصائص لا تصح إلا للأنبياء، فالآراء هي في بعض الأحيان أوامر دينية صارمة لاتقبل الجدل، وقد تصل في بعض الممارسات المبالغ فيها، في تلك المرحلة، إلى أشياء شبيهة بالتقديس والعصمة، وتتميز هذه المرحلة بصعود الصوت الإسلامي بغض النظر عن تقييمه أو نقده.

ثم المرحلة الثالثة: مرحلة «المفكر/خليفة الله»، وإذا كانت المرحلة الأولى تتميز بأنها عملية «تبادل» والثانية بأنها عملية «فرض»، فإن الثالثة عملية «رفض»؛ رفض للجميع والمجتمع بكل أشكاله، والتحول من «دعاة» إلى «قضاة» ـ حسب تعبير الهضيبي ـ، أو الانتقال من الأركان الأربعة(الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج) إلى المصطلحات الأربعة (الإله، الرب، العبادة، الدين) ـ حسب تعبير الندوي ـ، وينقد الندوي هذا الاتجاه ويسميه بالتفسير السياسي للإسلام في كتاب له يحمل نفس الاسم.

وهذه المرحلة الثالثة تختصر الإسلام في الدولة الإسلامية كما يذكر الندوي أيضاً، وتزعم أن الدولة الإسلامية فقط هي الفردوس المفقود، الذي يمحو كل أشكال البؤس والحرمان بمسحة عيسى، أو بعصا موسى في فكر أشبه شيء بـ«الثيوقراطية»، والقطيعة مع النتاج البشري والإرث الإنساني.

وقد انتجت المرحلة الثالثة وتصاعداتها ولاية الفقيه، وولاية المثقف الذي حمل أعباء الأول ورزاياه وأدواءه.

وليست المراحل التقريبية الثلاث للفكر الإسلامي الحديث خاصة بالفكر الإسلامي، فقد تنسحب على التيارات الأخرى، وفي كل وادٍ بنو سعد، فهي ذهنيّة واحدة في التعامل مع الأشياء والأفكار والأشخاص، فالمفكر الإنسان متواصل مع الذات والآخر، والمفكر النبي امتدادٌ متصل بالذات ومنطلق منها، والمفكر خليفة الله منقطع الصلة بهؤلاء جميعاً فهو في «عزلة شعوريّة» و «مفاصلة جسدية» أيضا.

وثمة داخل هذه المراحل، وأثناءها وبعدها، اختلافات وأصوات متقابلة، ولا يعني هذا التصنيف عدم وجود خصائص مرحلة في أخرى ـ أحياناً ـ، وإنما هي قراءة إجمالية للتوجه السائد الغالب وإلا فقد تجد ـ مثلاً ـ نماذج من «المفكر/الإنسان» في المرحلة الثانية والثالثة.

والتجربة الإسلامية تحتاج لإنسانية الإنسان وتبادله، وعيشه داخل المجتمع لا فوقه ولا بعيداً عنه، كما تحتاج من المرحلة الثانية لآراء حافظي ميراث النبوة، وإنما لا تحتاج إلى «رفض» المرحلة الثالثة بحال.

والفكر الإسلامي يفترض فيه أن يستفيد من أعمق وأنضج الخصائص المرحلية السابقة، وليضيف عليها ما تؤيده مقاصد الشريعة في مزيج يحفظ الدين، ولا ينسى نصيبه من الدنيا.

* كاتب سعودي

[email protected]