حكايات للصيف ـ إنها النوارس

TT

بين الصيف الماضي والحالي كتبت ثلاث حلقات عن طائر النورس. ارجوكم اسمحوا لي بالرابعة. كنت قد رويت في الأولى ان الرئيس امين الحافظ دعاني الى مطعم «ماركو بولو» في تيول، لأن النوارس هناك تداعب الاقدام. ومنعني التهذيب واللياقة ان ابوح له بأنني لا اطيقها ولا اتحمل صوتها. وعندما كتبت عن الأمر بعد عودتنا الى بيروت، اهداني كنارياً جميلاً كتعويض عن زعيق النوارس. واعتقدت ان المسألة النورسية قد انتهت. لكن بعد اشهر التقيت محمد الشارخ في بيروت. وقال لي في وجوم «ماذا فعلت. لماذا اغضبت ابو انور»؟ وابو انور هو الأستاذ عبد الرحمن سالم العتيقي وزير المالية الأسبق وأحد احب رجالات الكويت عندي. وشرح الشارخ، بأن ابا انور يحب النوارس. «وهذه اهانة. ترى يا معود ما يصير».

سألته ما الحل؟ قال نلتقي عندي في الكويت ونعقد المصالحة. وقبل ان يجلس الأستاذ العتيقي قال لي، «لا أحد يخرجني من بيتي في المساء. لكنني وددت رؤيتك؟ قلت والنوارس؟ قال «مالك منها. اتركها تولي».

ووعدت بألا اتعرض للنوارس بعد ذلك الحين. وكان اذا خطر على بالي مرة ان آتي على ذكرها، اتذكر الصديق الكبير ابو انور. ورفقة العمر مع الرئيس امين الحافظ. فأبحث فورا عن موضوع آخر. او طائر آخر. وفكرت مرة ان اكتب عن عشق الأديبة غادة السمَّان لطائر البوم. فقد كانت تملأ الأمكنة بصورها. وتهدي اصدقاءها كتباً من عيون البوم. وكادت تحاضر (لو لقيت رعاية) عن جمال البومة. ثم صدر كتاب عنوانه «طائر النورس» لروائي اميركي، فراحت غادة تكتب عنه ونسيت البوم، ففرحنا، وذات مساء ذهبت اتمشى على شاطئ «النورماندي» في بيروت القديمة، فاذا بي أمام اسراب من النوارس تتقاتل، مثل برامج الزعيق العربية، على فتات ملقى على الرمل. واتصلت بغادة في اليوم التالي وقلت لها متوسلا: رجاء. البوم!

جرى التعهد لأبي انور في الشتاء الماضي. وهذا الصيف استأجرت في «كان» غرفة في الطابق العاشر، ظنا مني ان النورس لا يصلها ويفضل البقاء قريبا من البحر. والطابق العاشر هو ايضا الأخير في هذا المبنى. ومن عادتي انني انام مثل الحجر. ولكنني اخذت افيق في الليل على صوت خناقات وما يشبه صراخ اطفال وقرقعة فوق رأسي. واستغربت شديد الاستغراب. فلا سكان فوقنا. وفي الشقتين المجاورتين سيدتان، الأولى هي معمرة فرنسا الأولى، والثانية منافستها. المدام اوجيني والمدام انجيلي. الأولى تزن نحو 40 كيلو مع المساحيق، والثانية، المدام انجيلي، نحو 45 اوقية. ومع ذلك قلت لعل احفادهما في زيارة هذا الصيف. واقنعت نفسي بذلك، برغم معرفتي ان الصغير في الاحفاد يجب ان يكون في الأربعين.

وظلت خناقات الأطفال ترن في اذني. ولا يمكن ان يكون ذلك من بقايا زعيق البرامج، لأن التلفزيون الفرنسي هو احسن دواء لالغاء التلفزيون من برامجك نهائيا. وتكرر الأمر. فقلت في نفسي، لماذا لا اسأل سيدة «الكونسييرج» او المديرة العامة لشؤون مداخل المبنى ومخارجه. المدام هورتانس. وسألت السيدة المديرة مازحاً، ان كان يعقل ان ينمو طابق (دور) اضافي في الليل فوق الطابق العاشر. وفكرت قليلا ثم هزت كتفيها الى فوق، وقالت وهي تنصرف الى ازرار المكتب: «ربما. لا ادري. انا لا ادري». فقلت في نفسي عندما اصادف المدام اوجيني او المدام انجيلي سوف اطرح السؤال. وليكن ما يكون. ومن حسن الحظ انها كانت المدام انجيلي. وقلت لها، بكل تأدب: يا عزيزتي المدام انجيلي. هناك ما يحيرني في هذا المبنى. فلا سكان فوقنا، ومع ذلك اسمع في الليل خناقات اطفال وكلاماً غير مفهوم و«دوشة» على رأي المصريين. وشرحت لها، بحركات الأيدي، ماذا تعني كلمة «دوشة»، وضحكت المدام انجيلي وهي تفتح باب المصعد: انها النوارس!

وضربت كفا بكف. لقد انتهى التعهد الشفوي الذي اعطي بحضور الوزير ميشال سماحة ومحمد الشارخ. انها النوارس.