شيعة العراق: استحالة ركوب الحصانين الإيراني والأميركي معا

TT

كان أبي من الجيل القومي في سورية الذي أحب العراق ونشد وحدة سورية معه. وظل الى آخر العمر يراسل اصدقاءه العراقيين الذين درس معهم في بيروت.

وكنت من جيل آخر يحمل أيضا هوى سورياً بالعراق. لكن مع المتابعة الطويلة للحالة العراقية، بت أعتقد أن هناك خللا ما في النفس العراقية الطيبة. كان زميلي العراقي في الجامعة يجنح الى الشجار مع أي زميل يقترب أو يتحدث الى زميلته التي كان يحبها من دون أن تدري.

وكبرت وازددت اقتناعا. وكنت دائما اسأل الصديق فيصل حسون النقيب الاسبق للصحافة العراقية، عن السبب في هذا الجفاء والعناد في الطبع العراقي. وكان في هدوئه ودماثته ينفي «التهمة الظالمة» للعراقيين. ولعل الاستاذ حسون ـ نشر جانبا من ذكرياته في هذه الجريدة قبل سنوات ـ يعترف بعد كل ما جرى ويجري في العراق بأن هذا الخلل النفسي والمزاجي هو في مقدمة أسباب اضطراب العراق في تاريخه وحاضره.

مع ذلك، أعترف بأن الخلل في العقل السياسي العراقي لا ينفصل عن الخلل في العقل السياسي العربي. لقد بني هذا العقل على التسليم التاريخي بالمطلق، من دون مراجعة أو نقد له أو لممارساته. هناك انفصال عقلاني عجيب عن الواقع الراهن، ومكابرة على الخطأ.

هشاشة المؤسسات القادرة على المراجعة والمساءلة والمحاسبة ـ كما تفعل المؤسسات الاميركية الآن مع أجهزة المخابرات وادارة بوش ـ هي التي تحدو الاشخاص الذين يمسكون بزمام السلطة الى المكابرة على تجاهل الخطأ والخلل. نظاما ناصر وصلاح جديد لم يقدما اية مراجعة لمسؤوليتهما عن هزيمة 1967 الكارثية. نظام صدام اقام الافراح السنوية بهزيمته الكويتية التي اعتبرها نصرا. عرفات المحاصر في رام الله حرم على تيري رود لارسن زيارة الضفة وغزة، لأن الممثل الشخصي للأمم المتحدة صارح السلطة الفلسطينية بأن الوضع على وشك الانهيار، وهو ما حدث فعلا بعد ايام قليلة.

لا أنزه أميركا عن الخطأ والغرض في العراق. فقد ظنته جمهورية موز في بحيرتها الكاريبية تغزوها متى تشاء. ثم تبين ان جهابذة القرار والصحافة والفكر لا يعرفون شيئا عن خريطة العراق الاجتماعية أو الذهنية والنفسية العراقية. ما زال المشروع الاميركي في العراق غامضا: هل تريد الانسحاب حقا، أم تريد قواعد للبقاء؟ إذا بقيت فكيف ستكون علاقتها مع نظام «مستقل» في العراق، أو مع الجيران، لا سيما الجارين الايراني والسوري؟

الامبراطورية الاميركية، كالامبراطورية الرومانية القديمة، تفضل استخدام ذراعها العسكرية الطويلة قبل ديبلوماسيتها. العراق ليس بجمهورية موز. كانت هناك دولة قوية وسلطة حاسمة. ارتكب الاميركيون اخطاء كارثية باسقاط الدولة مع اسقاط النظام. فقد سرحوا المؤسستين الادارية والعسكرية القادرتين على حفظ الامن وهيبة الدولة.

خوفي من غوغائية العقل السياسي والاجتماعي العربي، لن يمنعني من القول ان العقل السياسي الاميركي، على سذاجته ورعونته، ينطوي على نفحات من مثالية الرئيس وودرو ولسون، في التصور بأن في الإمكان إصلاح هذا العالم بتحرير شعوبه ومجتمعاته المتخلفة من الخوف. هذه المثالية الشاحبة تصورت إمكانية بناء عراق ديمقراطي، كما بنت في المانيا واليابان الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية.

العراق ليس مجتمعا منظما ومنضبطا كالمجتمعين الالماني والياباني. نعم، العراقيون مؤمنون بالحرية، لكن لا يأبهون أو لا يفهمون الديمقراطية. العقل العراقي، في طيبته وسلبيته ونزقه، تناسى جميل أميركا في ازاحة كابوس صدام عن صدره. ولم يصبر ليرى كيف تبني أميركا الديمقراطية العراقية.

«شعبوية» القيادات السياسية والدينية المتوارثة للشقاق والعناد منذ الحجاج الى بريمر، ألهبت الشارع العراقي فور سقوط صدام، بتناحرها ومزايداتها وبخطابها الإعلامي والسياسي الاهتياجي والإثاري. هذه هي الغرابة في العقل العراقي. انه يرفض علنا الاحتلال، وضمنا يفضل بقاء الأميركان، لتفادي الحرب الاهلية بين أديان ومذاهب وأحزاب وأقليات لم تتفق بعد على كيفية بناء الدولة واقتسام السلطة.

كان العقل السياسي والإعلامي العربي رديفا لسلبية العقل العراقي. ما أسهل تحريض العراقيين على أميركا، واستغلال اخطائها وخطاياها في المنطقة! إعلام ينتظر بلهفة صور ضحايا السيارات المفخخة وفيديو قطع الرؤوس والرقاب ليعذب بسادية ملايين المشاهدين، وألسنة رسمية وغير رسمية تنطلق، في ممارسة اللامعقول، مطالبة أميركا بالانسحاب، وتنفي التورط العربي في اللعبة الجهنمية العراقية.

العقل السياسي الايراني يحاكي الخلل في العقل العربي والعراقي. ايران تتدخل بكثافة في العراق، ثم تؤكد حيادها عندما تجتمع مع مجلس الجيران الوزاري! ألوف من رجال مخابراتها تسللوا مع العائدين. تم تفكيك المصانع المدنية والحربية قطعة قطعة، ونقلت سرا وعلنا الى ايران. عبد العزيز الحكيم العائد من ايران يطالب علنا، وبلا رفة جفن، بأن يدفع شعبه الفقير والمدين مائة مليار دولار تعويضا لايران، في الوقت الذي تسعى اميركا لتخفيض ديون العراقيين!

المشكلة في شيعة العراق ضعفها التاريخي امام ايران. لا شك ان التشيع المشترك نسج لحمة العلاقة بشكل لا يمكن فصلها، بسبب قوة الذاكرة الشيعية المفجوعة بشهداء آل البيت.

اعتقدت القيادات الشعبية العراقية واهمة انها تستطيع ركوب الحصانين الايراني والاميركي، في سعيها لوصول «الاكثرية» الشيعية الى حكم العراق. التقت اميركا وايران مرحليا على ضرورة اسقاط صدام. تصورت أميركا ان بإمكانها احلال الشيعة محل السنة في الحكم. لكن صراعات المرجعيات الدينية التي تراهن على ايران والطبقة السياسية الشيعية التي تراهن على اميركا، تسببت في بلبلة الموقف الاميركي وتردده.

وها هو مقتدى الصدر يعطل، بسذاجته المسلحة وخطابه الاهتياجي، مسيرة قبائل الشيعة الى الحكم. شاب بلا خبرة أو تجربة، يبحث بمزاج ناري عن دور سياسي، معتمدا على تاريخ اسرته الدينية. ايحاء القيادات الشيعية لأميركا بضرورة اقصائه فجر غضبه، وورط أميركا في «حرب المقابر والأضرحة»، بدلا من ان تصبر عليه وتفاوضه. خسر الصدر المعركة العسكرية، وكسب المعركة السياسية، بحيث بات يعتقد، إن لم يُقتل أو يُعتقل، بأنه خميني العراق.

لا شك ان مستقبل العراق، يعتمد الى حد بعيد، على محصلة صراع الشيعة في ما بينهم وعلى السلطة. رجال الدين ينتظرون الانتخابات لإيصال انفسهم أو مرشحيهم الى الحكم. وعلاوي وأمثاله من ساسة الشيعة ينتهزون فرصة الوجود الاميركي لبناء قاعدة راسخة لهم في السلطة والادارة والاجهزة.

مقتدى الصدر ليس وحده الذي يجسد سلبيات العقل السياسي العراقي. هناك شيعي آخر أذكى وأمهر فقد مكانته وسمعته بسرعة! الدكتوراه في الرياضيات والتدريس في جامعة بيروت الاميركية، لم يحولا دون ارتكاب عالم عراقي، كأحمد الجلبي، اخطاء كثيرة ايضا، كمحاولة الركوب المستحيل بالمقلوب للحصانين معا، ثم السقوط الخطر بين حوافرهما.

الجلبي ضحية براغماتيته المتسرعة في «البزنس» والسياسة. فقد خسر سريعا ثقة ادارة بوش التي ربما كان في تصورها ترئيسه على العراق، ولم يبق في حظيرته للدفاع عنه سوى أصدقائه يهود البنتاغون. وعندما احترقت اميركا في الشارع العراقي والشيعي، ركن بطموحه الى طيّات العباءة الايرانية.

الجلبي يسعى جاهدا اليوم الى انقاذ سمعته السياسية وذمته المالية. أميركا تتهمه بإبلاغ «آيات» طهران بأن الاميركيين فككوا شيفرتهم السرية المعقدة. طار صواب الاميركيين عندما قرأوا رسالة مشفرة من مدير محطة المخابرات الايرانية في بغداد الى «الآيات» يقول لهم فيها ان الجلبي يحذرهم من اختراق «لغتهم» السرية ولم تنفع الجلبي الايمان المغلظة التي اقسمها على براءته من التهمة.

ألم أقل، منذ البداية، ان هناك خللا في العقل السياسي العربي؟ هذا الصدر وذاك الجلبي يجسدان، كل منهما من موقعه المتباين، سلبية العقل السياسي العراقي خصوصا، ولا منهجية العقل العربي عموما.