تأخير التحول العراقي.. ولكن إلى متى ؟

TT

الاشارات المتكررة، أوالتصريحات الملتهبة لوزير الدفاع العراقي حازم الشعلان ، عن التورط الايراني في إفساد الوضع في العراق، لم تأت من فراغ، وهي تؤكد ان المسألة ليست مزحة، هناك بالفعل ما يمكن قوله عن الدور الايراني في هذا الصدد.

والحق ان ادانة ايران ونظامها الاصولي الثوري ، وحشرها أنفها في شؤون الدول العربية المجاورة، يخاطب مزاجا عربيا ألِفَ هذه الصورة عن ايران ، ويذكر الجميع بمقولة «تصدير الثورة» طيلة عقد الثمانينيات ، وما جرّته من توترات ومشكلات. هذه المرة، تتحرك حكومة ايران بمحرك الثورة ايضا، ولكن عبر طلب اكثر تواضعا هو «حماية الثورة» !

في القمة العربية التي عقدت في عمان سنة 1987 ، في ذروة الحرب الايرانية العراقية ، و«الاصطفاف» العربي خلف «الشقيقة» العراق ، ادان العرب تدخلات ايران في شؤون الدول العربية، ووجهوا نقدا لاذعا لها، مخرجين لها طرف سكين التضامن ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.

وكان مما ورد في بيان قمة عمان الختامي «إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول العربية والدول التي تزود ايران بالاسلحة ، وذلك اذا ما واصلت ايران اعتداءاتها على دول الخليج العربية» وايضا «ادانة تدخل ايران بالشؤون الداخلية لدول الخليج العربية ، وخلق القلاقل في هذه الدول ولجوئها الى العنف والارهاب لإثارة المشاكل».

واليوم، يتكررالمشهد ، مع اختلافات كثيرة فرضتها الايام وتقاسيم الليل والنهار، فتبدل الحلفاء، ودارت الكراسي، وتغيرت القلانس، وبقيت المصلحة هي المصلحة، دائما فوق كل اعتبار...

وضمن هذه المشهد الحافل، ليس غريبا ان يصبح «الزرقاوي»، الاصولي السني المتشدد، صديقا لإيران في العراق، يحظى بدعمها ورعايتها ، او على الاقل، تحرص هي على انجاح مشروعه ضد العراق الجديد، الذي تم باخراج وحماية من أميركا «الشيطان الاكبر».

فابو مصعب الزرقاوي، الذي افتخر أتباعه بقتل الحكيم ، والذي حاكم الطائفة الشيعية بمنطق اصولي دموي، يمسي صديقا لايران الخميني ، بل وتصبح رعايته من مصلحة ايران «العليا» كما اكد مصدر ايراني موثوق لصحيفة «الشرق الاوسط» في عددها الصادر 11 اغسطس (آب) الحالي ، قال فيه ان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني العميد قاسم سليماني اقر ، في ندوة مغلقة ، بتوفير ايران تسهيلات للاصولي الاردني المتشدد ابو مصعب الزرقاوي ، المتهم بتدبير معظم الهجمات والعمليات الانتحارية في العراق، مبرراً ذلك بأن نشاطات الزرقاوي في العراق «تخدم المصالح العليا للجمهورية الاسلامية» وبينها منع قيام نظام علماني .

العميد سليماني قال في الندوة التي اقيمت في مخيم لطلبة الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بجامعة الامام الحسين : «لا يحتاج الزرقاوي وعناصر قيادة تنظيمه الى رخصة مسبقة لدخول إيران ، فهناك نقاط حدود معينة تمتد من حلبجة شمالاً الى عيلام جنوبا، يستطيع الزرقاوي وما يزيد على عشرين مقاتلاً من قياديي انصار الاسلام ، دخول الاراضي الايرانية منها متى يشاءون». العميد سليماني، المشرف على انشطة وحدات استخبارات الحرس الثوري وفيلق القدس العاملة في العراق، اعتبر ان تورط الزرقاوي في مقتل محمد باقر الحكيم ليس امراً مؤكدا، فضلاً عن ان ما يقوم به الزرقاوي حاليا يخدم مصالح الجمهورية الاسلامية العليا، فقيام عراق علماني فيدرالي متعاون مع الولايات المتحدة ، اخطر بكثير من النظام البعثي السابق، ذلك ان النظام الجديد سيشكل، حسب سيلماني «تهديداً حقيقياً للاسلام الثوري المحمدي الخالص وولاية الفقيه».

حقاً ان السياسة تخذل المثاليين دائما ، وتصدم السذّج ، من الطرفين ، بمنطقها الداخلي الخاص القائم على منطق مصلحي بحت، ومن هنا ربما يكون الشاب مقتدى الصدر اول المنخدعين، اذا ما تمت صفقة معينة، مع نظام الملالي في ايران، يتم بموجبها تسكين مخاوف آيات طهران، وليس بمستغرب على الايرانيين النجاح في مثل هذه المفاوضات ، فهم اهل البازار ... وان كان الامر هذه المرة يتجاوز قدرات التجار وشطارتهم ، خصوصا مع دخول ايران على خط القنبلة النووية (التابو) الكبير، والنار المحرقة ، التي زادها اشتعالا تهديد الادميرال شمخاني وزير الدفاع بصواريخه القادرة على ضرب الاعماق البعيدة !

التدخل الايراني في أحداث النجف، ومن ثم خلق ظاهرة مقتدى الصدر، أو على الاقل، تغذيتها ومدها باسباب البقاء ، امر لم يعد قابلا للاخفاء ، ليس بسبب الصور التي عرضها وزير شؤون المحافظات العراقي امس الاول عن وجود اسلحة وذخائر مختومة بالختم الايراني ، مع مقاتلي الصدر ، ولا بسبب وقوع اسرى من الايرانيين في ميلشيا جيش المهدي ، بل لان حلفاء ايران التاريخيين في العراق، لم يجدوا مناصا من الإقرار بهذه الحقيقة ، فهذا ابراهيم الجعفري قائد حزب الدعوة العراقي الشهير، الحليف القديم لايران ، وامتداد اية الله العظمى محمد باقر الصدر، عدو صدام حسين وقتيله، يعترف بوجود تدخلات «خارجية» في اعمال المقاومة . وقد أكد أن هناك «متسللين يأتون من خارج العراق لتصفية الحسابات، مع هذا الطرف او ذاك ، وإعاقة العملية السياسية».

وعندما طلب منه تحديد الدور الايراني في ذلك قال: «أنا أثبت مبدأ وجود عناصر خارجية وانا متأكد من ذلك تماما، هذا جانب، اما ان تكون ايران او دولة اخرى فاعتقد أن الاعلام ليس ميدان التحدث عنه». طبيعي جدا ان يتهم الجعفري ايران بمثل هذه اللغة، لأن رجلا مثله، وفي وضعيته الحالية ، وخلفيته الحزبية والتاريخية، لا يمكن ان يصرح باكثر من ذلك، وحسبك به من وضوح .

وعندما نتحدث عن حقيقة التورط الايراني في تحريك مقتدى الصدر، ودعم امثال الزرقاوي، فان ذلك لا يعني «اختزال» ظاهرة المقاومة العراقية في البعد الايراني ، وهواجس الدولة الاصولية الكبيرة، فهناك ايضا عوامل داخلية تسببت في انفجار الوضع العراقي ، وهي عوامل معقدة ومتشابكة ، يتداخل فيها انهيار طبقات معينة، كانت مستفيدة من الصيغة السابقة ، وفجأة وجدت نفسها في العراء، امثال المسرّحين من الخدمة العسكرية بموجب قانون اجتثاث البعث، او من قبل الفئات التي تريد انتهاز فرصة الاختلال والارتباك وشبه الفراغ في السلطة، لخلق حقائق ووقائع على الارض، ترسمل عليها وتستثمرها، اذا ما استقرت الامور، وتماسك العجين العراقي ... وامور أخرى متعددة ليست بمستغربة على سلوك الطوائف والاقليات في هكذا منحنيات تاريخية .

من جهة اخرى ، هناك لاعبون آخرون في العراق ، غير ايران، سواء على مستوى الدول الاقليمية، او، وذلك اخطر وأعقد، على مستوى الآيديولوجيات في العالم العربي والاسلامي ، مرتابة من المستقبل المختلف والموعود به على ضفاف دجلة ومهد الآشوريين ... ولذلك نجد الفتاوى الدينية المنهمرة على السماء العراقية ، بين مبارك لـ«كل» أعمال ميليشيا الزرقاوي او «بعضها» ، وبين مساند لاعمال جند المهدي في النجف ...

ان العراق، الذي اصبح سوقا ومرتعا لصراع المصالح والافكار والاتجاهات.. والثقافات ايضا ، لا يستأهل هذا المصير، ويجب على ابنائه الوعي بمصالحهم لا مصالح الاخرين ، كما يجب على هؤلاء الاخرين منح العراقيين فرصة لانقاذ بلدهم والخروج به من حلبة هذه الاسلاك الشائكة.

حينما شاهدت الصور المعبرة الاتية من بغداد، نفس المدينة التي تعرض فيها المظاهرات الصاخبة الرافعة لصور الصدر وخطب الاعظمية، صور جموع الشباب الهاتفة بحياة منتخبها الوطني الاولمبي لكرة القدم ، الذي حقق الانتصار الثاني في اوليمباد اثينا، وهم يرفعون علم البلاد، ويهتفون «عاش العراق»، وليس الحزب الفلاني او الزعيم العلاني او الشيخ او السيد، بل العراق الذي هو ابقى واعلى من هذا الفتات الصغير .. انزاحت سحابة القتامة قليلا ، مفسحة شرفة زرقاء يطل منها «الحلم» العراقي رغم كل الصعاب.

[email protected]