السودان..تأملات في الأزمة ـ فرص الحل ما بين الأقلمة والتدويل

TT

من المهم أن ندرك في التعاطي مع مشكلة دارفور أن تأجيل الحل سيوفر أرضية ملائمة للتدخل العسكري الاجنبي، الذي لا تخفى نتائجه على أحد. عليه، لا بد من الاقرار بأن في دارفور مشكلة سياسية تستوجب حلا سياسيا. وفي هذا السياق يذكرنا البروفسور الكيني علي المزروعي، عند اشارته لحكم الرئيس السابق سيكتوري، الى أن اللجوء بأعداد ضخمة خارج الوطن من الدلالات المهمة على عدم قدرة أي حكومة كانت على معالجة قضايا المواطنين. والى ذلك فمشكلة درافور أصبحت كرتا انتخابيا امريكيا خاصة وسط الامريكان من ذوي الاصول الافريقية، فيما تحمس اللوبي اليهودي للقضية لتبرئة نفسه من تهمة الاهتمام باسرائيل فقط، من خلال اظهار اهتمامه بقضايا انسانية في مناطق اخرى. وهناك المجموعة الاوروبية، وعلى الرغم من تخفيف لهجتها، إلا أن قرارها حول السودان أجيز على مستوى المجلس الاداري الاوروبي، والذي لا يجتمع بسهولة. وقد وردت في هذا القرار جملة خطيرة جدا وهي (محاكمة الجنجويد وشركائهم). كلمة شركائهم هذه كلمة مطاطة وربما تطال مسؤولين كبارا في الدولة.

ومن النقاط الجديرة بالملاحظة أن للولايات المتحدة سياسة جديدة للاستفادة من البترول خارج الشرق الاوسط، وذلك بالتركيز على مصادر جديدة للبترول في افريقيا، بسبب الاضطرابات الحالية والموقف المعادي لامريكا في الشرق الاوسط، وكذلك للولايات المتحدة ايضا، استثمارات ضخمة في البترول التشادي، تقارب 6 بلايين دولار، وتحتاج للاستقرار في دارفور، حتى إذا دعا الامر لفرضه بالقوة. وقد ذكرت الـCNN أن مشكلة دارفور يجب أن تستفحل وتسوء قبل أن تحل، هذه جملة خطيرة. فهل المقصود بها تدخل عسكري امريكي؟ كما اقدمت الـCNN ايضا على استفتاء للشعب الامريكي على شاشة التلفاز حول مدى قبول الشعب الامريكي للتدخل العسكري في السودان. وهناك الصين، التي لديها اقتصاد ساخن ومنافس للغرب، والتي ستعاني من عجز في الطاقة يقارب الـ50% من احتياجاتها في العقد الثاني من هذا القرن. والصين الآن تركز على الاستفادة من بترول السودان.

ومن النقاط الأخرى الجديرة بالملاحظة أيضا حيازة دولتين اوروبيتين لأحسن خرائط بالاقمار الصناعية عن دارفور، ويصبح السؤال المحوري هنا: هل هناك اناء من ذهب تعلم به قوة خفية أو ظلامية ولا نعلم به؟ وعودة لقرار مجلس الامن، فالقرار ملزم للسودان، وغير مسموح بالاعتراض عليه. فالاعتراض عليه يمكن تشبيهه بأن يرفض المحكوم عليه بالاعدام تنفيذ حكم الاعدام عليه. القرار تجنب كلمة عقوبات متلاعبا بالالفاظ ومستخدما عبارة اتخاذ الاجراءات الضرورية عند فشل السودان في مقابلة ما حدده القرار. نود هنا أن نلفت نظر الحكومة السودانية بأنه اذا عكس السودان عدم رغبته أو عدم استطاعته حل الازمة، فلا مفر في ظل هذه الظروف الانسانية القاهرة من التدخل العسكري الاجنبي.

فالولايات المتحدة تبحث عن شرعية دولية، وهنا مكمن الخطر. والمتابع لزيارة كولن باول وكوفي أنان للسودان، يلاحظ أن باول العسكري القدير والسياسي ، كان كالحمل الوديع بتصريحاته الهادئة، وكوفي أنان موظف الخدمة المدنية يدفع بالتصريحات السياسية النارية التي هي خارج صلاحياته كموظف وليس سياسيا. وفي تقديري أن كوفي أنان لن يجرؤ على تصريح سياسي إن لم يكن لديه الضوء الاخضر. كل ذلك يؤكد لنا أن الولايات المتحدة الامريكية ومعها المملكة المتحدة، تبحثان بجدية عن شرعية دولية تحت مظلة الامم المتحدة للتدخل في السودان، خاصة والحق يقال، إن أزمة دارفور اصبحت هاجسا للمجتمع السوداني والاقليمي والدولي، كما أن هنالك قرارا من الكونغرس الامريكي من الواجب أن لا يستهان به.

وهناك منظمات حقوق الانسان العالمية بمكانتها المهمة في المجتمعات الغربية ومراكز القرار السياسي، وكلها ضد ما يجري في دارفور من انتهاكات لحقوق الانسان.

على جبهة أخرى أشير الى أن الحديث قد كثر في مراكز القرار الغربي عن دارفور باعتبارها بحجم فرنسا، وعن السودان الدولة ذات المليون ميل مربع والتي هي ربع مساحة اوروبا. فهل يفهم من ذلك أن بلدا بهذا الحجم وبفشله الاداري، غير صالح أن يحكم كدولة موحدة. وهنالك سؤال آخر مهم يجب أن يطرح، ونحن على بوادر سلام في الجنوب هل يعني انفجار الوضع في دارفور الرجوع إلى حرب أهلية أخرى؟ وهل انفجار الوضع في دارفور اقنع المجتمع الدولي على الرغم من تعامله السابق مع الحكومة السودانية في حل مشكلة الجنوب، بأن هذه الحكومة غير مؤهلة لاستتباب الامن بالبلاد وحكم السودان وبالتالي وجب العمل على اطاحتها؟

ولكن السؤال الأكثر حيوية فوق كل تلك الأسئلة هو: وهل من حل لأزمة دارفور؟

قناعتي تقول إن التدخل الاجنبي ربما يهدئ الاوضاع بصورة مؤقتة في المدى القصير، ولكن أضراره على السيادة الوطنية ووحدة التراب خطيرة جدا في المديين المتوسط والبعيد. ومن هنا تجيء مناشدتي لحكومة السودان بأن تبادر بالسيطرة على زمام الامور بوضع خطة عمل أو خطة طريق لمواجهة الأزمة واقناع المجتمع الدولي بفاعليتها، إذ ليس للحكومة السودانية خيار آخر للحفاظ على السودان سوى الالتزام الحازم بالخطة التي سأقول بها بعد دراسة متعمقة للأزمة، والتحرك السريع على ارض الواقع.

وفي هذا الخصوص وبدافع وطني، كنت قد قابلت مسؤولا حكوميا رفيعا وبحضور سفير السودان بدولة أوروبية، وقدمت له تصورا لخطة، قلت له معها: انه وفي وقت الازمات، لا بد من الموقف الشجاع الذي يعكس مستوى رجال الدولة، وذلك ستحترمه كل الاطراف الوطنية والاقليمية والدولية. وفي حالة تبني هذا الموقف من الحكومة، على المعارضين أن ينسوا خلافاتهم لمصلحة الوطن ويتبعوا نفس المبدأ لتحقيق حل سوداني سوداني. وللحقيقة والتاريخ فقد رحب المسؤول الحكومي الرفيع وسفير السودان في تلك الدولة الاوروبية بالخطة. ولمست منهما احتراما متبادلا كعادة السودانيين عموما.

ومن جانبي أقول الآن إإن تحقيق هذه الخطة، يعتمد اساسا على موقف صريح وواضح وقطعي من الحكومة السودانية بالتزامها بالحل السلمي بدءا. وفي نفس الوقت تهيئة المناخ السياسي الملائم بتقديم التنازلات والضمانات الملائمة لضمان سلامة وأمان المواطنين، وذلك بالغاء القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية واطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين.

مجمل القول إن الخطة تنقسم الى ثلاث مراحل الاولى من ثلاثين يوما، والثانية من ستين يوما، والأخيرة من 180 يوما.

ويكون على الحكومة السودانية أن تبدأ فورا بتنفيذ الخطة، وذلك بتوحيد كل الاطراف السودانية المتصارعة والأسرة الدولية للوصول إلى حل عاجل للازمة، مع ادراج كل مفاوضات واتفاقيات السلام الحالية ضمن الاطار النظري للحل، وذلك بالتركيز على ضرورة قيام مؤتمر للوحدة الوطنية يؤدي لسلام دائم وعادل لكل السودانيين في سودان موحد وبحكم فيدرالي. ومن أهم الركائز بالطبع العمل على تكوين مجلس يجمع كل الاطراف السودانية في ضوء تهيئة المناخ السياسي من قبل السلطة الحاكمة ليصبح من أهم مهام هذا المجلس وضع وتنفيذ خطة انقاذ عملية وعاجلة في دارفور وتنفيذ خطة دارفور كمقدمة لخطة قومية أوسع ترتكز على ازالة الفقر وتوفير الاحتياجات الاساسية والأخذ بمبدأ التنمية المستدامة لكل السودان والعمل على تسويقها إلى المجتمع الدولي.

وفي غضون ذلك بالطبع السيطرة على الجماعات المسلحة في دارفور ونزع اسلحتها مع محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية.

وأخيرا مخاطبة اربع جهات هي: إدارة حل الازمات الدولية بالأمم المتحدة والولايات المتحدة والمجموعة الاوروبية نحو فهم مفهوم السودان الجديد، والمجتمع الاقليمي الممثل في جيران السودان وعلى وجه الخصوص مصر ولا بد أن ننوه هنا بان لجيران السودان توقعات مشروعة تجاه ما يحدث في السودان ولا نعني حقوقا مشروعة، وأخيرا التوجه نحو المستثمرين في ضوء خطة التنمية السودانية المشار اليها.

وأخيرا، فخلاصة القول إنه ليس في مقدور السودان مواجهة المجتمع الدولي في غياب القطبية الدولية، فيما لن يكون بوسعه تحقيق هذه الخطة بدون الانفتاح على كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والطرق الصوفية والكنائس وزعماء العشائر.

أما خطوط الخطة العريضة فأجملها، أمام ضيق المساحة في الآتي:

*المرحلة الأولى: ثلاثون يوما لمقابلة القيد الزمني المفروض من مجلس الأمن، لتحقيق الآتي:

توفير الغذاء والحماية الفورية وتقديم خطة العمل لمجلس الأمن. وعلى هذا الاساس يقتصر دور المجتمع الدولي على تقديم العون الانساني بارادة سودانية ، والهدف من ذلك، تمديد القيد الزمني من الأمم المتحدة من خلال إظهار الجدية نحو تحقيق السلام من خلال خطة ممنهجة ومنضبطة زمنيا.

*المرحلة الثانية: وتعنى بتحقيق السلام والعودة الطوعية للاجئين والنازحين والمصالحة الوطنية في فترة ستين يوما، تسبق الانتخابات الامريكية. ومن أهم أهداف هذه المرحلة حل مشكلة دارفور وتحقيق مؤتمر الوحدة الوطنية والتوقيع الاخير على كل اتفاقيات وبروتوكولات السلام التي بدأت لمشكلة الجنوب.

*المرحلة الثالثة: وتعنى بمرحلة الاستثمار وجذب الموارد الخارجية كهدية للسلام باصلاح الهياكل الاقتصادية والادارية والاجتماعية ومدتها 180 يوما. بمعنى آخر أن القيد الزمني لتنفيذ كل مراحل الخطة اذا توفرت النيات الصادقة للحكومة والمعارضة يقدر بـ270 يوما. فالدراسات العلمية في فض النزاعات تؤكد أنه عند قرب الحل تظهر المصالح الحقيقية للافراد. ولذا فهناك من يتمترس بعقلية القلعة خوفا من التغيير، وهناك الحمائم التي ترى ضرورة التغيير. وفي هذه الحالة وخاصة مع ظروف السودان الحالية والمهددات الاساسية لبقاء السودان لابد من التخلص من الصقور إن كانوا معارضة أو حكومة، الا قد بلغت اللهم فاشهد.

* أكاديمي سوداني يقيم في لندن، رئيس المنظمة السودانية لحقوق الانسان ونائب برلماني سابق