السودان..تأملات في الأزمة ـ واشنطن والخرطوم.. بين سلطة القوي وقوة الضعيف

TT

بعدما كان العالم منذ عام يتوقع انجاز اتفاق سلام جنوب السودان معززاً بوعود سخية لاعمار ما خربته الحرب، أصبح الآن من فرط هول ما دبر له ونفذ في دارفور يتوقع تمزيقه مصحوباً بمواجهات عربية ـ افريقية، واسلامية ـ مسيحية، والكل يتساءل: كيف حدث هذا ولماذا؟. حتى الآن لم تتضح بعد الصورة الحقيقية الكاملة وان تنوعت وتعددت التحليلات والتخريجات. لكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو ان اتفاق السلام الذي كان وشيكاً قد تسبب في تصاعد تفجير الأوضاع في دارفور لأن مقاتلي دارفور يطمحون في اتفاق مماثل ويحسبون ان الوصول إليه سبيله القتال، وفي المقابل بالغت الحكومة في ردعهم خشية من تفشي ظاهرة دارفور في اقاليم السودان الأخرى.

ويبقى السؤال المهم: لماذا منذ البداية لم تشرك كل القوى السياسية في مفاوضات السلام طالما ان ما يسفر عنها تتأثر به كل أوضاع السودان؟ لا يمكن الإدعاء بأن ذلك حدث سهواً أو ان الحكومة وحركة قرنق وحدهما تتحملان مسؤولية ذلك، وإنما المسؤولية بالدرجة الأولى تقع على الولايات المتحدة الامريكية وعلى وسطاء وشركاء «الايقاد».

لقد نبهت القوى السياسية منذ البداية إلى ضرورة إشراكها في المفاوضات إلا أن الحكومة والحركة تواطأتا طمعاً في الهيمنة، ولكن ما بال الولايات المتحدة التي مارست ضغوطاً على الجانبين في كل شيء غضت الطرف عن مسألة المشاركة هذه، إن لم تكن شريكة في التواطؤ؟

وبالمناسبة حتى لو لم تقع احداث دارفور على نحو ما وقعت به فإن الاتفاق لو تم على نحو ما هو معروف فإنه سيواجه منزلقات قد تجعل تطبيقه عسيراً جداً.

لقد كان رهان الولايات المتحدة على سلام السودان واضحاً وضوح الشمس إلى درجة أنه صنف ضمن بطاقة بوش الانتخابية. ومن باب تنشيط الذاكرة ننوه الى الزيارة الخاصة التي قام بها كولن باول إلى مقر المفاوضات بكينيا، والمحادثات الهاتفية المتكررة منه ومن مستشارة الأمن القومي وحتى من الرئيس بوش لطرفي التفاوض والدعوات التي وجهت للاحتفاء بتوقيع الاتفاق في حديقة الزهور بالبيت الأبيض، فضلاً عن الآمال التي تحدثت عن رغبة الرئيس في أن تكون هديته في عيد الميلاد سلام السودان. وبالتوازي من باب التشجيع اجزلت الإدارة الأمريكية في الوعود للسودان بدءاً من الرفع الفوري للعقوبات، وانتهاء بتقديم المساعدات بما يعادل نصف مليار دولار مروراً بتجنيد كل الاصدقاء لتقديم عون مقدر لإعادة اعمار ما خربته الحرب، وفجأة تحولت الصورة إلى الضد تماماً إلى حد تحريض مجلس الأمن لفرض عقوبات على السودان، بل والتدخل العسكري إذا لم تكف الحكومة عما تفعل في غرب السودان والذي يصفه البعض في الإدارة الامريكية بالابادة الجماعية والبعض الآخر يقول: انه يوشك أن يبلغ حد ذلك الوصف لكنه لم يبلغه بعد!

قطعاً هذا التحول الكبير يبدو مفاجئاً ومثيراً، خاصة انه لم يعد هناك أي حديث في العلن على الأقل عن السلام الذي كان يرتجى أن يكون ضمن بطاقة بوش الانتخابية، فما هو سر هذا التحول؟ يبدو في كل الأحوال ان الناخب الامريكي من اصول افريقية كان هو المستهدف الأول وتوقعت إدارة بوش انها بوسعها ان تكسب اصواته لو تحقق سلام الجنوب على يديها علماً بأن غالبية الناخبين السود دائماً في صف الحزب الآخر.

ولمّاَ ادركت ان السلام لم يعد قريباً وان جهات بعينها بدأت تستثمر أحداث دارفور من منطلق أنها إبادة جماعية لأفارقة ركبت الموجة أيضاً ودخلت في مزايدات مع كيري وحملته الانتخابية، وهكذا تبدلت البطاقة من بطاقة بيضاء ترفرف عليها حمامة السلام إلى بطاقة حمراء تلوح بالحرب على السودان الذي يتجنى عربه على مواطنيه الأفارقة.

وبالطبع هناك جهات كثيرة دخلت على خط هذه المعركة لاسباب مختلفة ومصالح مختلفة ايضاً وليس هنا مجال يتسع لاستعراضها ويبقى السؤال بلغة الحساب: من هو الخاسر ومن الرابح في هذا التحول؟ لا شك أن السودان هو الخاسر الأكبر ولا يتوقع أن يجد مثل هذا الاهتمام من الإدارة الامريكية القادمة لو جدد لبوش أو جاء كيري.. انها مجرد فرصة نادرة ولم يستطع ان يستثمرها ويحسن توظيفها ويقرأها قراءة صحيحة، ولا ريب أن بوش أيضاً خسر فرصة نادرة كان يمكن ان يستثمرها في بطاقته الانتخابية وهي ان ادارته تمكنت من طي صفحة أطول الحروب في افريقيا وهي كما تبدو الشيء الإيجابي الوحيد الذي كان من الممكن ان يحسب له في العالم كله كعمل ايجابي لا خلاف حوله.

وفي كل الأحوال لن تستبعد الولايات المتحدة السودان من دائرة اهتماماتها ولكنه لن يكون بتلك الأهمية التي عقدتها عليه خلال عام الانتخابات على وجه التحديد، ومع ذلك هل يستفيد السودان من هذه الدروس؟ .. وهل ستكف الولايات المتحدة عن رفع المطرقة من فوق رأسه، خاصة انها تشعر بمرارة وتحمله مسؤولية عدم تمكينها من بطاقة السلام؟

اغلب الظن أن الأمر كله سيتوقف على الطريقة التي سيتعامل بها السودان مع التحديات التي تواجهه في هذه اللحظات وأبرزها الموقف من دعوة رئاسة الاتحاد الافريقي ارسال قوات افريقية لحفظ السلام، إن قبل سيكون احتفظ بالدعم الافريقي له وإن رفض يكون قد فتح الطريق أمام الأجندة الامريكية التي يعلم بخطرها ويدرك أنه أعجز من صد أهوالها!

وعلى الأرجح انه سيقبل، فقد جاء في احدث تصريح لوزير خارجية السودان: ان السلطات السودانية قد تعيد النظر في الأمر اذا أقنعنا الاتحاد الأفريقي بأهمية قوة حفظ السلام.. وحتما سيكون بوسعه اقناعكم، ولعل في التصريحات النيجيرية بعض الدروس والعبر، وخلاصتها: إما أن يقبل السودان الضغط الودود الصادر من الاتحاد الافريقي أو يتحمل مسؤولية الضغط الشديد الذي سيوجه اليه من مجلس الأمن والمجتمع الدولي.

واذا تجاوز السودان هذا المحك وقبل بالقوة الافريقية فانه قطعا يكون قد خفف كثيراً من موجات الهجمات المتتالية عليه وحافظ على الود العربي الافريقي الماثل، ولكي يصد كل الموجات، خاصة الغادرة منها فعلى الحكومة ان تكمل الاستفادة من كل حصص الدروس وهي معروفة ولا تحتاج إلى بحث وعناء.. فإذا كان اتفاق سلام الجنوب قد فتح معارك دارفور إلى ذلك الحجم والسقف وهو اتفاق يراد تعميمه على كل السودان فما الذي يمنع الكل من المشاركة فيه واعتماده؟ اذن يصحح الوضع وتدعى كل القوى السياسية للمداولة والتوقيع عليه، خاصة انها بشكل عام تقبل به وقد ابدت ترحيبا مشروطاً بتمثيلها فيه.

كذلك ينص الاتفاق على فترة انتقالية ودستور يحكم تلك الفترة ومشاركة لكل القوى في حكومة قومية وهذه كلها مسائل تستوجب التفاهم والتوافق من كل شرائح المجتمع السوداني ويلزم ان تتداعى كل هذه القوى إلى مؤتمر جامع لانجاز هذه المهمة.

وبهذه الطريقة وحدها لا غيرها يستطيع أهل السودان ان يسدوا الذرائع امام الأوصياء ويتواصوا على ما يكفي بلادهم شرور التدخلات الدولية والتي اشرها ما يهدف لتمزيق النسيج السوداني بخلق صراعات بين العرب والافارقة وبين المسيحية والإسلام.

ان درس تغييب القوى السياسية كاد يمزق اتفاق السلام وحرب دارفور أوشكت ان تنال حتى من وحدة المسلمين وتدخلهم في صراعات اثنية يمتد اثرها للقارة بأسرها والسبيل الأوحد لتجنب كل ذلك ها هو معروف والوصول إليه ميسور وعلى الحكومة أن تبادر بتبني الدعوة للمؤتمر الشامل.