السودان..تأملات في الأزمة ـ عائد من السودان .. المشكلة أكبر مما تصوره الحكومة

TT

وصف الامين العام للأمم المتحدة دارفور بأنها اسوأ أزمة إنسانية في العالم، ويقول منسق الأمم المتحدة جان إنجلاند، المشهد في دارفور يدعو للبؤس، ومنسق آخر للأمم المتحدة هو موكيش كابيلا يصف الهجمات العربية ضد المدنيين في غرب السودان بأنها تقترب من مفهوم التطهير العرقي. الكونجرس الأمريكي ومنظمة هيومن رايتس ووتش وصفاها بأنها إبادة وتطهير عرقي. أصدرت الأمم المتحدة القرار 1556 وفقا للبند السابع من الميثاق بما يعني تصميم المجتمع الدولي على وضع حد لهذه المأساة التي أعادت للبشرية الحروب الأثنية القبلية البدائية وذكرتنا بمأساة رواندا وبورندي سابقا.

تقول تقارير الأمم المتحدة إن هناك حوالي مليون ونصف المليون مشرد، مائتا ألف رحلوا إلى تشاد، وتقديرات القتلى من 10 إلى 30 ألف قتيل، حرق لمئات القرى. صحفي بريطاني وصف دارفور بأنها البيئة المثالية للتعاسة. وسط مشهد البؤس هذا تخرج علينا تصريحات الحكومة السودانية بأن الحملة الخارجية تستهدف دولة الإسلام وتتحدث عن حرب صليبية جديدة ضد السودان وعن الإيادي الصهيونية، وهي تصريحات نسمعها مع كل خيبة عربية. وفي مشهد استعراضي حركت الحكومة السودانية عدة آلاف من أنصارها في مظاهرات في شوارع الخرطوم تحمل شعارات «إلى الجهاد في دارفور»، «دارفور مقبرة الغزاة» .. إلى آخر هذه الأسطوانات التي نسمعها منذ أكثر من نصف قرن في شوارع العواصم العربية.

خارج المنطقة العربية هناك إجماع عالمي كامل على ثقل المأساة وعلى مسؤولية الحكومة السودانية المباشرة عنها، والاختلاف ليس حول حجم الكارثة ولا حول مسؤولية الحكومة السودانية، ولكن حول سبل المعالجة التي لا تفاقم الأزمة أكثر مما هي عليه.

تصريحات الحكومة السودانية وحلفائها الجنجاويد تدينها. ففي حوار تليفزيوني قال الرئيس البشير إنه سيسحق المتمردين قائلا «سوف نستخدم الجيش، البوليس، المجاهدين، والفرسان، للقضاء على الثورة»، أما موسى هلال زعيم الجنجاويد فقال في حوار لصحيفة غربية «نحن استنفرنا بأمر من الدولة، وحركتنا في ميادين القتال كانت تحت أمر القيادة العسكرية ولم يكن تحركنا فرديا ولا قبليا، وكل تحركاتنا كانت تأتي من القيادة العسكرية، ومهمتي فقط كانت استنفار القبيلة وتعبئتها وكذلك فعل زعماء القبائل والعشائر العربية، أنا كنت مثلهم تماما في طاعة الأوامر العسكرية».

تقارير المنظمات الدولية مليئة بالوثائق والوقائع التي تدين حكومة الخرطوم في تقرير كبير لمنظمة العفو الدولية بعنوانه ،كثيرون قتلوا من غير سبب، Too many people killed for no reason، ننقل بعضا من فقراته.

مشكلة دارفور مشكلة سياسية في الأساس وتتعلق بسوء توزيع الموارد والتنمية والاستعلاء الشمالي على الجنوب والغرب السوداني، والاقصاء والتهميش والظلم، والحل كان يكمن في حوار سياسي يمنح الأقاليم السودانية المختلفة حرية سياسية لا مركزية ويدعم التنمية العادلة والمشاركة والمساواة والمواطنة، مما يجعل وحدة السودان طوعية اختيارية قائمة على أسس صلبة من المساواة والمشاركة والعدالة، ولكن الحكومة السودانية تعاملت معها بقساوة عسكرية، وكما قال الصادق المهدي في حوار مع قناة الحرة إن الحكومة السوادنية ظنت أن توقيع اتفاقها مع الجنوب سوف يعطيها الضوء الأخضر لمثل هذه الممارسات ويبعد أعين المجتمع الدولي عنها، وكان هذا بالطبع تصورا خاطئا لأن المأساة أكبر واوسع من أن يتجاهلها الضمير الإنساني.

في مأساة دارفور سقطت الجامعة العربية كما هو متوقع في الاختبار كالعادة، فيما سقط أيضا الإعلام العربي المنشغل بتفاصيل صراع ابو عمار مع رفاقه وحلفائه على تقسيم النفوذ والاموال، الاعلام العربي مشغول ايضا بالتحريض على الإرهاب والقتل والدمار في العراق، ولهذا تجد المراسلين الأجانب من كل صوب وحدب ونادرا ما تجد صحفيا أو اعلاميا عربيا قادما لتغطية هذا الأزمة الإنسانية.

سقط ايضا الضمير الرسمي العربي، فلم يخرج بيان واحد يدين بشكل واضح لا لبس فيه ممارسات حكومة الخرطوم ويدعو إلى الحل العاجل لهذه الكارثة.

المجتمع المدني العربي كان يمكن أن يكون هو المعبر عن الضمير الحقيقي الإنساني للمجتمع العربى، ولكن المجتمع المدني ضعيف ومكبل ومحاصر، ولا يملك الموارد والامكانيات التي تملكها المنظمات المدنية الدولية مثل امنستي وهيومان رايتس ووتش وفريدوم هاوس وغيرهم، ومع هذا أثلج صدري بيان عن دارفور صادر عن منتدى جديد أسمه «منتدى الإصلاح الديموقراطي في الدول العربية». ادان البيان بعبارات واضحة ما يحدث، ويقول : «وإذ يتوقف الموقعون عند ظاهرة امتناع الحكومات العربية وعدد كبير من الأحزاب والشخصيات والمنظمات غير الحكومية العربية عن رفع أصواتها ضد هذه الممارسات، وذلك خلافا للعديد من المنظمات الاقليمية والدولية، يدعون إلى كسر هذا النوع من الصمت في تقاليد الثقافة السياسية العربية المعاصرة الرسمية، ويدعو الموقعون الحكومة السودانية إلى الكشف فورا عن القتل والاغتصاب وتدمير البيوت والمزارع وحرقها وتهجير المقيمين فيها، مباشرة أو غير مباشرة بواسطة المليشيات التابعة لها كما تؤكد التقارير الصادرة عن جهات دولية موثوقة، كما يدعون إلى فتح تحقيق عربي ـ دولي حول ما يجري لإرساء تقاليد محاكمة المسؤولين في أي بلد عن هذا النوع من جرائم الدولة».

مأساة دارفور يمكن أن تكون مدخلا للإصلاح الشامل لقضايا الاستعباد والفساد والاستبداد والتهميش والعنف وإعادة الوحدة للسودان على أساس طوعي، فيما من الممكن أيضا أن تكون مدخلا للتقسيم.

واجزم بأن الوحدة والتنمية والاستقرار والازدهار أمور ترتبط بشكل عضوي بالحرية والديموقراطية، وهذا هو السبب في الفشل الذريع في تعامل النظام السوداني الحالي مع مشاكله بل ومسؤوليته المباشرة عن تفاقم هذه المشاكل.

* كاتب مصري

[email protected]