اتحاد المغرب العربي... الإصلاح السياسي أولاً

TT

لم تنجح المجموعة المغاربية في تحويل مشروع المغرب العربي الكبير الى فعل تاريخي قادر على تعزيز مقومات التنمية في الاقطار المغاربية. بل انها لم تنجح في تركيب برامج مشتركة في العمل قادرة على تحويل بنود ميثاق الاتحاد الى معطيات ومواد قابلة للانغراس في تربة الواقع، وقادرة في الآن نفسه على تحويل المشروع الى تاريخ.

ورغم المعطيات الجغرافية والتاريخية والثقافية العامة التي صنعت مشروع الاتحاد وحلمه. فإن ضغوط الواقع في أبعاده المختلفة قد كرست واقع الحال القائم بين اقطار المغرب العربي.

يفترض المراقب من الخارج ان دول المغرب العربي مهيأة أكثر من غيرها لرسم معالم تعاون عربي اقليمي فاعل في محيطه المجتمعي ومطور لآليات في التعاون مع دول الاتحاد الاوروبي، وذلك بحكم الطابع الواقعي والبراجماتي الذي وسم أغلب سياسات اقطاره. ولعله يفترض أيضا ان غياب الوعي القومي الشمولي عن نخبه السياسية كما هو الحال عليه في المشرق العربي عموماً قد يساعد في بلورة أهداف واضحة ومتدرجة، وهو ما يمنحها إمكانية التحقق الفعلي في مستوى الممارسة والانجاز.. الا ان ما حصل منذ اعلان ميثاق الاتحاد لا يدعم مثل هذا الرأي، ولعله يكشف بكثير من القوة، وجود خلل ما في الارادة السياسية يقف بمثابة حجر عثرة أمام الطموح المجتمعي المغاربي في بناء قوة عربية اقليمية في شمال غرب افريقيا، قوة قادرة على ركوب درب التنمية بايقاع أسرع، وقادرة في الوقت نفسه على إعداد محاور للاتحاد الاوروبي الذي يزداد قوة. ويتجه لتعزيز مسيرته التاريخية في بناء القارة الأوروبية..

يكشف تعثر مشروع اتحاد المغرب العربي في نظرنا ثقل القيود السياسية الكابحة لامكانية ترجمة بنوده على ارض الواقع، ويكشف أيضاً نوعية العوائق الفعلية التي تحد من آفاقه. ومن ابرز هذه القيود نذكر الاشكال الذي ما تزال تطرحه قضية الصحراء المغربية بين المغرب والجزائر، وذلك رغم تعدد المبادرات العربية والدولية والمغاربية الرامية الى ايجاد مخرج مناسب لهذه القضية..

فكيف يعقل ان نتحدث عن تفعيل اتحاد المغرب العربي والحدود المغربية الجزائرية مقفلة؟ بل كيف يمكن ان نتحدث عن المغرب العربي الكبير دون ردم هوة التباعد والتوتر الحاصلة بين البلدين المذكورين؟

ودون الدخول في تفاصيل الاشكال المذكور، وما تولد عنه من معطيات جديدة في النظر اليه، وخاصة بعد الاقتراحات المغربية التي تواترت في السنوات الاخيرة، حيث أصبح يتم التفكير في الموضوع في اطار بحث موضوع الجهوية والحل الثالث.. الا ان التصورات المهيمنة على مجال الخلاف المغربي الجزائري ما تزال محكومة في بعض اوجهها. بمنطق زمن الحرب الباردة الذي ولى زمنه، ومنطق القوة الاقليمية الذي لا يستطيع تصور القوة في الاقليم ولا في الدولة الاقليمية.. وكل هذا يعد محصلة لافكار متجاوزة في العمل السياسي والعمل السياسي الجهوي والاقليمي..

يعتبر مشكل الصحراء إذن من المشاكل المطروحة في جدول أعمال العمل المغاربي المشترك، ولا يمكن تجاهلها ولا نسيانها مثلما انه لا يعقل ان يستمر الحديث عن المغرب العربي وأبواب التواصل التاريخي الناقلة للخيرات والمنافع المادية والرمزية موحدة، حيث تعرف اوضاع الحدود المغربية الجزائرية المغلقة كثيراً من التوتر المفتوح على ممكنات لا حصر لها..

هناك أمر آخر يفسر عجز الاتحاد ويعوق امكانية تحويله الى فاعل مساهم في ارساء مقومات التنمية والنهوض في الاقطار المغاربية، يتعلق الامر ببطء الاصلاح السياسي الديمقراطي داخل دوله، ونحن نعطي لهذا العامل اهمية قصوى في الظروف العربية والدولية الراهنة، ليس فقط بسبب ضغوط المجتمع الدولي في هذا الباب، بل لأن مطلب الاصلاح السياسي الديمقراطي شكل وما فتئ يشكل ثابتا من ثوابت العمل السياسي في المجتمعات المغاربية.. وفي هذا السياق نحن نرى انه سواء تعلق الامر بايجاد حل لمشكل الصحراء، او بتوسيع دائرة المشاركة السياسية داخل دول المغرب العربي، فإن الاصلاح الديمقراطي يعد من الأولويات التي لا ينبغي التنازل عنها، وذلك بحكم العلاقة التي نفترض بين الاصلاح السياسي وبين بلورة التصورات والحلول السياسية لمختلف الاشكالات التي تحول دون ترجمة بنود ميثاق الاتحاد الى معطيات فعلية قادرة على المساهمة في حل اشكالات التنمية والتقدم في مجتمعات المغرب العربي.

ويمكن ان نشير هنا على سبيل التمثيل فقط الى ان السجال السياسي الذي عرفه مشكل الصحراء في الاعلام المغربي المكتوب وفي المجال السياسي المغربي منذ مطلع الألفية الثالثة، يعد جزءاً من آليات التطور الديمقراطي الحاصل في بلادنا، حيث تم التعبير عن كثير من الآراء المعززة لدائرة البحث عن مخارج أكثر تاريخية لمشكل لم يستطع الزمن وحده أن يساعد في التخلص من تبعاته وآثاره، وخاصة في مستوى تفعيل آليات اتحاد المغرب العربي.

لهذا السبب نعتبر ان دعم دعاوى الاصلاح السياسي في مختلف أقطار المغرب العربي يساهم في تعزيز تكامل الاقطار المغاربية، اما مواثيق العمل التي تغض الطرف عن اسئلة الواقع ومعطياته فإنها تستطيع ان تنشئ المواثيق التي تحفظ دون اثر يذكر، انها لا تستطيع بناء المؤسسات الفاعلة والمقررة، المؤسسات القادرة على منح الاتحاد القوائم المساعدة على الحركة والانجاز.. ان الشلل الراهن في الاتحاد يعكس شلل الانظمة وقصر نظرها السياسي، كما يعكس آليات في التفكير السياسي والتفكير المستقبلي تجاوزها الزمن..

لقد سبق لأحد مفكري المغرب العربي ان اقترح حلاً لمشاكل الحدود بين اقطار المغرب العربي، وهو اقتراح ينسحب على مجمل الجغرافية العربية مشرقاً ومغرباً.. يتعلق الامر بإنشاء مشاريع اقتصادية كبرى مشتركة بين الاقطار المغاربية، مشاريع يكون بإمكانها ان تمد الجسور وتعزز التواصل، بل وتشكل الاسمنت اللاحم لدرجات التعاون والتكامل.. هذا ويمكن ادراج هذا الاقتراح ضمن الأفق الذي يرى في التكامل الاقتصادي الوسيلة المناسبة لتمتين اواصر التقارب بين اقطار المغرب العربي.. الا ان كل دول المغرب العربي لم تنجح في بناء مثل هذا التصور، بل ان ليبيا، وهي من الاقطار المغاربية المعروفة بمشاريعها العديدة في العمل القومي لم تنجح في مختلف تجاربها في هذا المجال في بناء قطب اقتصادي مع جارتها تونس، ولعلنا لا نجانب الصواب اذا ما قدرنا ان تعاون تونس مع اقطار الخليج العربي في مجال تعزيز البنيات التحتية السياحية يفوق التعاون الليبي التونسي، وكان يفترض ان يكون النسيج الاقتصادي التكاملي بين تونس وليبيا أفضل مما هو عليه الأمر الآن.

لا ينبغي ان تفوتنا هنا الاشارة الى تجربة التكامل الاقتصادي الاوروبي، حيث يعتبر الاتحاد الاوروبي اليوم محصلة لتاريخ طويل من العمل الثنائي والجماعي المتواصل، حيث شكلت الآلة الاقتصادية العمود الفقري للاتحاد الأوروبي الذي أصبح اليوم عنواناً لقارة جديدة.. فكيف يمكننا، بناء على ما سبق، ان نتحدث عن اتحاد المغرب العربي بحدود مقفلة؟ بل كيف يمكننا ان نتحدث عن اتحاد من دون سكة حديد قادرة على وصل الدار البيضاء ببنغازي، حيث تتحول وهران والجزائر وتونس وصفاقس ثم طرابلس بمثابة محطات كبرى في خط مخترق للحدود وموسع لمجال التبادل والتواصل..

تتداعى أمامنا هذه الافكار ونحن نسمع عن احتمال عقد قمة مغاربية في شهر سبتمبر (ايلول) القادم، واذا كانت الاشارات الواردة فيها تشخص جوانب من مظاهر عوائق الاتحاد، وتشير الى بعض عناصر فشله، فإننا نصوغها انطلاقاً من اقتناعنا بأن الاعمال الكبرى في التاريخ لا تؤسسها فقط ظرفيات محددة بشروطها واكراهاتها العديدة، بل ان ما يصنعها وبكثير من القوة هو مبادرات الفاعلين القادرين على استيعاب الشروط المذكورة وبناء العناصر القادرة على تحويلها وتعديلها بالصورة التي تخدم المشروع الكبير، مشروع إطلاق الاتحاد وإطلاق مؤسساته التي تستطيع وحدها تفعيل الاتحاد..

ان فشل الاتحاد وشلله خلال العقدين المنصرمين لا ينبغي ان يجعلنا ننفض أيدينا عن حاجتنا اليه، بل ينبغي ان يشكل عاملاً من عوامل تشخيص افضل لمآله. وهذا التشخيص يعد الخطوة الأولى في عملية التفكير في مستقبل الاتحاد..