لحود إلى ولاية ثانية؟!

TT

اذن، افتتحت المداولات بشأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني قبل أسابيع من الموعد المحتمل لإجراء الانتخابات في مجلس النواب. واستقبل الرئيس السوري بشار الأسد عددا من الشخصيات اللبنانية لسماع آرائهم حول هذا الاستحقاق وللوصول إلى صيغة أفضل لإنجازه بالشكل والمضمون المقبولين، وللوقوف على توجهاتهم في شأن انتخاب المجلس النيابي رئيس الجمهورية. وينص الدستور في مادته الثالثة والسبعين على أن يجري الانتخاب قبل موعد انتهاء الولاية الحالية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر، الأمر الذي يعني أن مهلة الانتخاب ستبدأ في 23 أيلول (سبتمبر) المقبل. كما أوفد الرئيس الأسد وزير خارجيته فاروق الشرع لزيارة الرئيس اميل لحود مع رسالة دعم لخياراته الوطنية.. والاقتصادية أيضاً.

وكان لافتاً أن يفتح الرئيس السوري لقاءاته مع الحلفاء اللبنانيين بلقاء مع الرئيس سليم الحص، تلاه لقاء آخر مع الوزير نجيب ميقاتي، وهو أمر فُسر على أنه إشارة تتعلق بالخطوات التي ستلي انتخاب رئيس الجمهورية. فاستقبال الحص يحمل معاني تتعلق بالماضي، في حين ان لاستقبال ميقاتي معاني تتعلق بالمستقبل. وعلى كل حال تبدو صورة العهد المنتظر ـ على الأرجح ـ خالية من رفيق الحريري، الذي اختار اقتطاع بعض الوقت لقضاء إجازة قصيرة خارج لبنان، ربما قبل بدء الإجازة الطويلة داخله. وسربت أوساط لبنانية مطلعة على لقاءات الأسد الثنائية مع الشخصيات اللبنانية انه (كان يستمع لزواره ويطرح عليهم مجموعة من الأسئلة ويتحدث بارتياح عن التعاون مع الرئيس لحود معرباً عن تقديره المميز له).

ومع أن الصورة ما تزال غامضة بشأن الطريقة التي سينجز فيها هذا الاستحقاق لأن المداولات ما تزال مستمرة ولم يُجمِل الرئيس السوري صيغتها النهائية بعد، ولم تصدر عن المؤسسة الرئاسية السورية أية إشارة تتعلق بمشاورات أبعد من دمشق وبيروت، إلا أن المقدمات التي حملتها الساعات الماضية أعطت انطباعاً قوياً بأن الخيار السوري يقترب من صيغة تعديل الدستور لإفساح المجال إما ولاية ثانية كاملة للرئيس لحود، الذي تنظر إليه دمشق باحترام كبير وتصف علاقاتها معه بالاستراتيجية، وتقدر له «عاليا» مواقفه الوطنية والقومية وصبره اللامحدود في وجه حملات التشكيك التي تعرض لها من خصوم وبعض أصدقاء سورية في لبنان، وهذا ما أكده مضمون البيان الرئاسي اللبناني الذي صدر عقب اجتماع الرئيس لحود مع الوزير فاروق الشرع يوم الاثنين الماضي، الذي جاء فيه «اعتبر الوزير الشرع أن الأمن والاستقرار اللذين يشهدهما لبنان وسورية ينبعان من الاستراتيجية الحكيمة التي اعتمدها الرئيسان الأسد ولحود والتي من شأنها توفير المناخات الملائمة للاستثمار والتطوير الاقتصادي في البلدين بتعزيز مسيرة البناء المؤسساتي الداخلي في كل منهما».

وهكذا يمكن القول ان دمشق حسمت خيارها وبدأت فعلاً بتحضير المناخات السياسية الملائمة للتحرك نحوه، كما بدأت العمل على حماية هذا الخيار بكافة الوسائل المتاحة بدءاً من توسيع دائرة المشاورات، وليس نهاية بالاستعداد لتحمل الضغط المتوقع من عواصم غربية تريد تخفيف الظلال السورية في الخيار الرئاسي اللبناني، ولا بالآثار السلبية للنشاط المتوقع من فرقاء لبنانيين يعارضون هذا الخيار ويعملون على تقويضه (بعضهم يعتقد أنه قريب من دمشق!) وبمعنى آخر فإن دمشق المطمئنة ـ حتى الآن ـ إلى خطوتها هذه لا تغفل التداعيات المحتملة في لبنان، كما في خارجه، لأنها ترى الرئيس لحود يستحق كل هذا الجهد من حيث انه «ضمانة وطنية» أثبتت فعاليتها في كل الظروف والأحوال.

ويتوقف مراقبون باهتمام أمام تاريخ إميل لحود الذي حول الموقف الرسمي اللبناني من متشكك في عمليات المقاومة إلى داعم لها، وهو اعتبرها سقفاً وطنياً لا يستطيع أحد تجاوزه، وحماها من حملات التشكيك التي سقط فيها بعض السياسيين لوقت قصير، ولتصل بعد ذلك إلى إنجازها التاريخي عندما نجحت في إخراج المحتل الإسرائيلي من معظم الاراضي اللبنانية، كما أظهر الرجل بعد ذلك صلابة وجدية في الدفاع عن مكتسبات المقاومة عندما رفض الانجرار إلى لعبة التأثر بالذين ارادوا تحويلها إلى منظمة إرهابية كمقدمة لقطع رأسها، وهو مطلب إسرائيلي تنادي به الولايات المتحدة وتعمل من أجله ليل نهار.

ولكن لا بد من سؤال يبرز بين الأسطر السورية في لبنان: هل ان هذه الخطوة تمت بتوافق غير معلن مع الولايات المتحدة، أم ان الأمر غير ذلك؟

الباحثون عن إجابة مقنعة لهذا السؤال يتوقفون عند تصريحات نائب وزير الخارجية الأميركي ريتشارد ارميتاج، قبل الشروع في استكشاف طلاسم وخفايا الخطوة السورية وأبعادها الدولية. فالإجابة المقتضبة التي رد بها ارميتاج على من سأله بشأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني بقوله «إنه شأن سوري لبناني»، لها دلالات لا يستطيع أحد تجاهلها إلا إذا جاءت في إطار زلات اللسان الأميركية وعليه يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن (توافقاً ما) بين سورية والولايات المتحدة أنجز ولم يعلن، وأن التصريحات الأميركية المتشددة التي تتناقلها وسائل الإعلام حول سورية وضرورة خروجها من لبنان تندرج في إطار التسويق، للاستمرار بإعطاء الانطباع بأن الخلافات ما تزال على حالها لأسباب أميركية. ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن هذا التوافق الجزئي سيشكل مقدمة لتوافقات تشمل تصحيح العلاقات السورية الأميركية، وحمايتها من إسرائيل التي نجحت في ضرب هذه العلاقات، مثلما نجحت في توظيف الحملة الأميركية على الإرهاب لحساب مصالحها وسياساتها في المنطقة.

ثمة قراءة مختلفة تستند إلى معطيات أخرى تصب في اتجاه معاكس وتؤدي الى النتيجة ذاتها، وخلاصتها أن سورية قادرة على إنجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان بسهولة ويسر وهي بما لها من وزن وثقل تستطيع «تمريره» من غير خسائر كبرى، يضاف إلى ذلك أن عددا لا بأس به من النواب يفضلون هذا الخيار وهم على استعداد للعمل من أجله. أصحاب هذا الرأي ينظرون إلى أن سورية تذهب في هذا الخيار من غير مشاورة أحد غير اللبنانيين، وأن التأثير الأميركي والفرنسي أيضاً أقل من أن يعيق التحرك نحو هذا العمل، إذ أن للولايات المتحدة مصلحة حقيقية في استقرار الوضع في لبنان، ولا تريد إثارة فرقاء داخليين يتعاطفون مع سورية ويعملون بالتنسيق الكامل معها.

ومن المفيد هنا الانتباه إلى ان واشنطن دخلت في «غيبوبة» الانتخابات الرئاسية، وليس للمعارضة اللبنانية وزن يذكر لاستثماره في حمى سباق بوش ـ كيري إلى البيت الأبيض. أما فرنسا، التي تبدو بعيدة نسبياً هذه الأيام عن دمشق، فلم تظهر في ثنايا موقفها اعتراضات جدية على عودة الرئيس لحود إلى كرسي الرئاسة الأولى لولاية ثانية، وإن استمع بعض المسؤولين الفرنسيين لمعارضين لبنانيين لهذا الخيار. ولأن الدستور اللبناني ينص في مادته التاسعة والأربعين على عدم جواز التمديد والتجديد لرئيس الجمهورية، فإن تعديل هذه المادة ممر لا بد منه لفتح الباب أمام الرئيس لحود للترشح لولاية ثانية. وكانت هذه المادة عدلت قبل تسع سنوات عندما وافق مجلس النواب على ذلك ولمرة واحدة أفسحت في المجال للتمديد للرئيس اللبناني السابق إلياس الهراوي.

لا شك ان هذا التحول سيفرض نفسه بقوة في الحياة السياسية اللبنانية، ومن شأنه ان يفتح الباب على مصراعيه ليعيد المشتغلون في الشأن اللبناني ترتيب أوراقهم بما يتلاءم والوضع المستجد الذي سيشهد، بالتأكيد، تحالفات جديدة قد تفتح الباب على مصراعيه لدخول فرقاء ظلموا أنفسهم بالرهان على قلب المعادلة السورية في لبنان، وقد يفتح الباب أيضاً أمام مصالحات وخصومات وأشكال جديدة للحوار الداخلي، الذي خضع في الماضي لتجاذبات تركت آثارها العميقة على الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطنين.

وبانتظار تمظهر شكل لبنان مع لحود الثاني، يعمل السوريون بنشاط لافت على حشد كل الطاقات لدعم خياراته وتوجهاته القديمة الجديدة، ومن غير صراعات داخلية هذه المرة، صراعات ضررها أكيد... وفائدتها لا تذكر.

* إعلامي سوري