«الإمبراطورية».. تتأقلم مع الإرهاب

TT

قرار الرئيس جورج بوش خفض الوجود العسكري الاميركي في اوروبا بمقدار الثلث بنهاية العقد الحالي وإعادة نشر القوات الاميركية المتمركزة في الخارج في قواعد أقرب إلى منطقة الشرق الاوسط، يشكل بداية عهد «امبراطوري» جديد للولايات المتحدة لا نهاية عهد، كما كان الحال مع انحسار الامبراطورية البريطانية، مكرهة، من شرق السويس في الستينات.

الولايات المتحدة تنتقل، طائعة، من مرحلة إمبراطورية الى مرحلة أخرى. وإذا كان اللافت في هذا الانتقال تسريع الانسحاب من أوروبا في وقت يسعى فيه حلف شمال الاطلسي ـ الذراع العسكري الأهم للنفوذ الأميركي في الخارج ـ لاستنباط «علة وجود» مقبولة لاستمراريته بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية، وفي وقت تأخذ فيه دول اوروبية رئيسية على واشنطن تهميش دورها على الساحة الدولية.. فإن جغرافية التمركز العسكري المقترح في الخارج توحي بقناعة واشنطن بأن مرحلة الحرب الباردة انتهت.. لتبدأ مرحلة الحرب على الارهاب «المعولم».

ولان الولايات المتحدة لم تعد تعلم في أي بقعة من بقاع العالم ستضطر الى خوض حروبها على الارهاب ـ كما كشف وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد ـ فقد بات لزاما عليها تجميع قواها في قواعد محصورة داخل الولايات المتحدة بحيث يسهل نقلها بسرعة الى البؤر الملتهبة في الخارج.

الا أن الاستثناء الأبرز للقاعدة الجديدة لاعادة الانتشار الاميركي يبقى قرار الإبقاء على وجود عسكري ملموس في قواعد أقرب جغرافيا الى الشرق الاوسط وفي قلب الشرق الاوسط، ما أمكن ذلك. وفي سياق هذه الخطة يندرج اعلان البنتاغون عن نقل قريب لسرب من سلاح الجو الاميركي من المانيا الى قاعدة انجرليك في تركيا، ولتحريك قطع من الاسطول الاميركي من بريطانيا الى إيطاليا، علما بان واشنطن لن تسحب، في مستقبل منظور على الاقل، 130 ألف جندي أميركي المتمركزين في العراق ولا جنودها الـ18 ألفا في افغانستان وتعمل، في الوقت نفسه، على تأمين قواعد جديدة لقواتها في المنطقة، وتحديدا في قطر وجيبوتي.

إذن احتواء الشرق الاوسط والتمركز داخله، اصبحا البديل الجديد للانتشار العسكري السابق في القارة الاوروبية، مما يوحي بأن أوسع عملية اعادة تمركز للقوات الاميركية في الخارج، منذ نهاية الحرب الباردة، يحكمها هاجس «حرب الارهاب» أكثر ما تستدعيها التحولات الاستراتيجية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي.. وعليه يوحي البعد السياسي لهذا الانتشار بأن الولايات المتحدة عازمة على التأقلم، شرق أوسطيا، مع حملتها على الارهاب مما يسمح بالاستنتاج بان مشروعها لـ«شرق أوسط جديد» لن يبقى خيارا «ديمقراطيا» لدول المنطقة بل برنامج تحول سياسي واجتماعي مراقب عن كثب على أمل أن تتكرر في الشرق الاوسط المحصلة السياسية للوجود العسكري الاميركي في كل من المانيا واليابان.

من المكابرة الادعاء بأن دول الشرق الاوسط لا تحتاج الى المزيد من الانفتاح على الحريات السياسية والحقوق الفردية. ولكن مشروع الوصاية الأميركية الآيديولوجية على المنطقة، المدعوم بوجود عسكري ملموس، يهدد بتحويل دول الشرق الاوسط المستضعفة ليس الى المانيا ويابان جديدتين بل الى منظومة تدور في فلك الهيمنة الاميركية على المنطقة، تماما كما كانت دول اوروبا الشرقية تدور، لغاية التسعينات، في فلك الهيمنة السوفياتية.

من هنا تكمن أهمية إمساك دول المنطقة بزمام التحول الانفتاحي لأنظمتها، «فانتظار الترياق من العراق» ـ ومن حول العراق ـ قد يحرمها من الفرصة المتاحة لها حتى الآن لأن تبدأ بصياغة ديمقراطية تتناسب مع معطياتها الواقعية وتطلعاتها المستقبلية.

وبقدر ما تعجل دول الشرق الأوسط بمسيرة الانفتاح الذاتي بقدر ما تقطع الطريق على تحول الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة الى وصاية آيديولوجية عليها.