يبشرون المسلمين بالعلمانية .. وهم يعززون علاقة الدولة بالدين!!

TT

في الولايات المتحدة 90% يؤمنون بوجود الله.. فهل هذا يزعجنا أو يؤذينا؟.. لا.. وأسانيد (لا): العقلية والاخلاقية والدينية هي :

أ ـ ان الايمان بوجود الله علامة على (وجود العقل) الذي لا يمكن ان يفسر وجود الكون الا بوجود الله .. ومن الفرحة العقلية : ان يكون العقل حاضرا ـ لدى الناس ـ لا غائبا.

ب ـ ان الايمان بالله أفضل من الكفر والالحاد بلا ريب.

ج ـ ان للناس حرية اختيار الدين الذي يريدون. وليس لأحد ـ ولا النبي ـ ان يكون عليهم مسيطرا كما نصت على ذلك الآية 22 من سورة الغاشية.

د ـ للمسيحيين أو النصارى أن (يتدينوا) بمقتضى الانجيل الذي معهم: «وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه».

هـ ـ ان النصارى ـ في الجملة ـ هم أقرب الناس الينا بنص الآية 81 من سورة المائدة.

هذا مدخل لا بد منه بين يدي المقال: للصدع بهذه الحقائق والمفاهيم من جهة.. ولدفع ايهام قد يرد: من جهة أخرى.

وننتقل من التدين الفردي أو الاجتماعي الى الموضوع (الديناسي): أي الدين ـ السياسي.

لئن كان الشعب الامريكي متدينا في معظمه، فإن الدولة إنما هي (دولة علمانية): نأت بنفسها عن الدين من الناحية الرسمية او الدستورية، وانفصلت عن الكنيسة.. ولا قيمة لكلام او رأي لا تعززه وثيقة ولا برهان.. فما الوثائق والبراهين على (علمانية الجمهورية الامريكية)؟.. هذه هي الوثائق والبراهين:

1 ـ ينص التعديل الاول من الدستور الامريكي على انه «لن يصدر الكونجرس اي قانون بصدد ترسيخ الدين أو منع ممارسته».

2 ـ فسر الزعيم الامريكي الشهير (جيفرسون) هذا النص بقوله : «هدف التعديل الاول هو: انشاء حائط فاصل بين الكنيسة والدولة».

3 ـ وفسرت المحكمة الدستورية العليا: النص الدستوري وضبطته وحررته في هذا الحكم: «لا تستطيع الولاية أو الحكومة الاتحادية تأسيس كنيسة أو سن قوانين تساعد اي دين، أو تفضل دينا على آخر».

4 ـ سمحت مدرسة حكومية في نيويورك لتلاميذها بتلاوة هذا النشيد أو الدعاء كل صباح: «أيها الرب القدير، بارك والدينا واساتذتنا وبلدنا».. فعدّت المحكمة العليا تلاوة هذا الدعاء: اجراء أو عملا باطلا دستوريا.

ولكن يبدو ان هذه النصوص والتفسيرات الدستورية قد علقت أو عطلت بدليل:

أ ـ بروز (المضمون الديني) ـ بقوة والحاح ـ في حملة الانتخابات الرئاسية الحالية بين بوش وكيري. فكلاهما يدعي انه حامي المسيحية ووليها وقيومها.. وكلاهما نزل الى الكنائس فجعل منها (منبرا سياسيا انتخابيا): كأي منتدى سياسي آخر».

ب ـ الدعم (الرسمي) ـ مثلا ـ: لليهود الارثوذكس.. يقول (ناتان ديمامنت) ـ مدير العلاقات العامة بالاتحاد الارثوذكسي ـ: «لقد نجحنا في الحصول على أمور معينة بسهولة كبيرة، لأن هناك ادارة وكونجرس يشاركوننا آراءنا ومواقفنا«!!». وهذا ما حدث على سبيل المثال بعد الزلزال الذي وقع في منطقة سياتل عام 2000 . فمن بين المباني التي دمرها الزلزال: معبد يهودي ارثوذكسي، الا ان القانون يمنع ويحظر على المؤسسات الدينية تلقي مساعدات فيدرالية من وكالة مساعدات الطوارئ FEMA . ولقد لفتنا اهتمام البيت الابيض الى هذا الموضوع بعد تولي بوش منصبه. ولم نكن في حاجة الى كثير من الاقناعات لكي نوضح : ان هذا القانون يتعارض مع مواقف الرئيس. وبعد بضعة أشهر: وقّع بوش على أمر رئاسي مكّن المعهد من تلقي مساعدات بلغت مليون دولار لاصلاحه» (قارن هذا بالواقعة التي طالعناها منذ قليل وهي: ان المحكمة الامريكية امرت ببطلان دعاء ديني في مدرسة حكومية). لأن الدعاء مفهوم ديني: تناقض مع الدستور العلماني.. أما المعبد اليهودي فهو إلحادي شيوعي علماني، لا علاقة له بالدين!!

ج ـ (التصريحات الرسمية) التي تفضل دينا على آخر (عكس ما نص عليه حكم المحكمة الدستورية العليا).. إن (جون اشكروفت) هو وزير العدل الامريكي، بل هو من أكابر اركان الادارة.. وهو في موقعه الرسمي هذا قال: «ان إله المسلمين يدعوهم الى الانتحار من أجله.. أما إلهنا نحن المسيحيين، فإنه يرسل ابنه ليموت من أجلك».. وهذا الغاء تام ونقض كامل لحكم المحكمة الدستورية العليا الامريكية الذي يحرم على الدولة الامريكية: أن تفضل دينا على آخر.. وتصوروا لو أن وزير العدل في اندونيسيا أو السعودية، أو مصر، أو ماليزيا، قال مثل ما قاله أشكروفت، ولكن في الاتجاه المضاد، أي ان الوزير المسلم طعن في (إله المسيحيين) واستخف به.. لو حدث هذا لوقعت زلازل سياسية وفكرية وإعلامية تحاول ان تعصف بالاسلام والمسلمين وتلغيهم من فوق الكوكب.

تلك مجموعة أدلة وقرائن تثبت ـ بالقول والفعل ـ: تعزيز العلاقة بين الدين والدولة في الجمهورية الامريكية.

ولهم أن يفعلوا ما يشاءون: لهم أن يعطلوا دستورهم أو يعدلوه أو يلغوه لكي يجعلوا جمهوريتهم (دولة دينية).

ولكن لماذا يحلون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم؟.. لماذا يبشرون العالم الاسلامي بـ (العلمانية) وهم متلبسون بتعزيز العلاقة بين الدين والدولة؟.. وهو تعزيز بدأ منذ سنوات عديدة، ولكنه تكثف وتأصل في ظل هذه الادارة الراهنة التي احتضنت تيار (الاصولية الدينية السياسية) ومكنت له ايّما تمكين في صميم العصب الاهم في الحياة الامريكية: السياسية والاستراتيجية.. وهذا الاتجاه (المسيحية السياسية) هو ما جعلته (اماندا بوترفيلد) عنوانا لكتابها (تحول الديانة الامريكية: قصة صحوة في أواخر القرن العشرين).

قلنا: لماذا يبشروننا بالعلمانية، بينما هم يقيمون الجسور والروابط بين الدين والدولة، على الرغم من نص دستورهم على الفصل بين الموضوعين أو القضيتين؟

ولكن كيف يبشرون المسلمين ويدعونهم الى العلمانية: كحل حاسم لمشكلاتهم وتأخرهم وتخلفهم الخ؟

أصدرت مؤسسة (راند) ـ وهي لسان حال الاصولية المسيحية السياسية في مجال البحث والدراسة ـ اصدرت تقريرا بعنوان (الاسلام الديمقراطي المدني).

قوام هذا التقرير: التبشير بالعلمانية في العالم الاسلامي. ولنقرأ ونفكر ونتدبر ونفهم.

يقول التقرير: «العلمانيون هم الذين يريدون من العالم الاسلامي: ان يتقبل فكرة فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية. فالعلمانيون والحداثيون هم الأقرب الى الغرب من وجهة نظر المبادئ والسياسات ـ ومن المقترحات والبدائل: جعل العلمانية والحداثة بمثابة خيار ثقافي بديل بالنسبة للشباب الاسلامي.. وتشجيع وجهة النظر القائلة بأن فصل الدين عن الدولة ممكن ايضا في الاسلام، حيث ان ذلك لا يشكل خطرا على الدين، بل على العكس من ذلك، ربما يقويه.. إن الديمقراطية الغربية يمكنها ان تتبنى فكر فصل الدين عن الدولة بالرغم من بعض الغموض الذي ينتابها، وعليه يصبح العلمانيون هم أفضل حلفائنا في العالم الاسلامي».

هناك: جهود فكرية وسياسية وعملية لتوثيق علاقة الدولة بالدين.. أما بالنسبة للمسلمين فهي الدعوات الصريحة المثابرة لفصم علاقتهم بالاسلام على مستوى الدولة.. ما هذا الانفصام؟ والتناقض؟ بل النفاق؟

قد يقال: ليس هناك توثيق لعلاقة الدين بالدولة. وإنما هو الاستغلال السياسي للدين. وهذا دفاع أقبح من التهمة. إذ كيف يجرؤ انسان محترم ذو عقل وضمير، على تسخير دين المسيح العظيم ـ رسولا وانجيلا ـ في سبيل أهواء سياسية.. إن معنى الاستغلال السياسي للدين هو (تسييس) المسيحية من أجل كسب سياسي انتخابي.. وتسييس المسيحية ـ لا حبا في نصرتها ـ وإنما لأجل الكيد للاسلام ومحاصرته وضربه.. وتسييس المسيحية بهدف خدمة الاستراتيجية الصهيونية.. وتسييس المسيحية لأجل ان يحترق الكوكب بنيران الصراعات الدينية.. نعم. يحترق الكوكب بنيران الصراعات الدينية. فحقائق الواقع تقول: إن في عالمنا هذا (صحوات دينية) شتى: يهودية وكاثوليكية وبروتستانتية وارثوذكسية واسلامية.. وما لم ترشد هذه الصحوات وتضبط بالخلق العالي والعقل الحكيم والسياسات الراشدة، فإن هذه الصحوات ستتحول الى صراع مرّ كريه وشامل ومهلك.

بقي ان نقول: إن من المفارقات الصاعقة: انه بينما تتوثق العلاقة بين الدين والدولة في أمريكا: يهرول عربان ـ الى درجة اللهاث ـ ومعهم فؤوس حادة، أو موسى مشحوذة لحلق كل شعرة تربط بين الدين والدولة في العالم الاسلامي.. ومن يدري فلعل هؤلاء ينشئون حزبا باسم (حزب التكفير الكوني)، هدفه: تكفير اليهود والنصارى بأديانهم حتى يزول التناقض المتمثل في سؤال موجه لهؤلاء الاعراب وهو: لماذا تحرمون على أمتكم ما تحلونه لأمريكا والدولة العبرية أو تسكتون عنه؟